إن اليهود في أسبانية والشرق، خالطوا العرب في عصورهم الذهبية، وتأثروا بتفكيرهم واقتبسوا لغتهم وتحلّوا بآدابهم، وضربوا بسهم وافر في جميع نواحي نشاط الفكر العربي. لذا لم تكن الأسفار البعيدة والرحلات المديدة غريبة عنهم أيضا. على أنه من الحق أن نشير هنا إلى أن الدوافع التي كانت تحدو باليهودي الأوروبي على ترك دياره والضرب في طول الأرض وعرضها لم تكن كلها اختيارية، ولم تكن كلها لمجرد الاطلاع أو الوقوف على أحوال الأقطار المختلفة. بل كانت هناك ثلاثة عوامل أساسية تدفعه طوعا أو كرها إلى الإكثار من الرحيل والتجوال.
أما العامل الأول فكان سياسيا. إذ كان اليهودي الأوروبي، في عرف تلك العصور المظلمة، ملكا لأمير الإقطاع يصنع به ما توحي إليه رغبته ومصلحته. وعلى هذا، قلما كان له مطلق الحرية للإقامة حيث شاء.
كما لم يكن مطمئنا على سلامته واستقراره في موطنه ومسقط رأسه.
بل كان يجد نفسه بين فترات متقاربة أو متباعدة، حيال قرار مؤلم خطير يجب أن يتخذه بمنتهى السرعة- وهو أن يتخير بين أن يترك دينه ومعتقده باعتناق ديانة السلطة القائمة، أو أن يبارح موطنه ويحمل عصا الترحال، تاركا وراءه كل ما ملكه من حطام دنياه الضيقة. ولما كان الشق الأخير من هذا الخيار المؤلم أكثر ما يؤثره اليهودي على الرغم مما كان فيه من تضحية تبلغ في أغلب الأحيان الجود بالروح في سبيل المعتقد؛ فإن تعبير «اليهودي التائه» لم يكن في