للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولم يذكر أنه حضر الصف قط عرياناً١ وكفى به صلى الله عليه وسلم قدوةً في تحقيق عبودية التوكل وبيان كيفيته، وكان عليه الصلاة والسلام يدخر لأهله قوت سنة٢ وكان إذا خرج مسافراً للجهاد أو للعمرة أو للحج حمل معه الزاد وكذلك الصحابة رضي الله عنهم، وهم أولو التوكل حقاً، ومن جاء بعد الصحابة ووفقه الله بأن وصل إلى القمة في التوكل إنما اشتم رائحة توكلهم من مسافة بعيدة، أو عثر على أثر من غبارهم، فحال النبي صلى الله عليه وسلم، وحال أصحابه هي الميزان الذي يقوم به حال من بعدهم، وعلى ضوء ذلك تعرف الأحوال الصحيحة من السقيمة، ولا يفوتنا أيضاً أن نقول: إن التوكل الذي كان في قلوب الصحابة كان سبباً في تبصير القلوب، وأن يعبد الله في جميع البلاد، وأن يوحده جميع العباد، فملئوا بتوكلهم القلوب هدى وإيماناً، وكانت هِمَمُهم عالية فكان أحدهم لا يصرف قوة توكله واعتماده على الله في أمر يحصل عليه بأقل حيلة وسعي، وإنما كانوا يتوكلون في الأمور العظيمة مثل فتح البلدان، والنصر على الأعداء، وتوطيد عقيدة التوحيد في كل مكان فرضي الله عنهم وأرضاهم٣، وعلى ضوء هذا نقول: إن من يطعن في متخذي الأسباب مع التوكل فإنما يطعن بالدرجة الأولى في نبي الهدى صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده، ومن طعن في أولئك فليتهم نفسه بأنه على غير ملة الإسلام.

قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب عند شرحه لحديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب: "واعلم أن الحديث لا يدل على أنهم لا يباشرون الأسباب أصلاً كما يظنه بعض الجهلة فإن مباشرة الأسباب في الجملة أمر فطري ضروري لا انفكاك لأحد عنه حتى الحيوان البهيم، بل نفس التوكل مباشرة لأعظم الأسباب كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} ٤ أي كافيه وإنما المراد أنهم يتركون الأمور المكروهة مع حاجتهم إليها كالاسترقاء والاكتواء فتركهم له ليس لكونه سبباً لكن لكونه سبباً مكروهاً لا سيما المريض يتشبث بما يظنه سبباً لشفائه بخيط العنكبوت، أما نفس مباشرة الأسباب والتداوي على وجه لا كراهية فيه فغير قادح في التوكل فلا يكون تركه


١- ذكره الترمذي في سننه ٣/١١٩ من حديث الزبير بن العوام وابن ماجة ٢/٩٣٨.
٢- رواه البخاري في صحيحه ٣/٢٨٧ من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
٣- انظر مدارج السالكين ٢/١٣٤ ـ ١٣٥ بتصرف.
٤- سورة الطلاق آية: ٣.

<<  <   >  >>