ذَلِكَ، وهَذَا -حَقًّا- عُقُوبةٌ، ولكِنْ هُناكَ عُقوبةٌ أشَدُّ وهِيَ الإعْرَاضُ عَنِ الحَقِّ {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} هَذَا أعظَمُ مِنْ عُقُوبَةِ البَلَاءِ الحِسِّيِّ الجَسَدِيِّ؛ ولهَذَا قَال: {يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيطَانِ وَلِيًّا} [مريم: ٤٥] كَانَ جَوَابُ الأَبِ جَوابًا قَاسِيًا: {قَال أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ} [مريم: ٤٦]، أَنكَرَ علَيهِ الرَّغبَةَ.
ولهَذَا قَال أهْلُ البلَاغَةِ: الَّذِي يَلي همْزَةَ الاستِفْهَامِ هُوَ المُنكَر، يَعْنِي: لَمْ يقُلْ: يَا إبراهِيمُ أَرَاغِبٌ. بَلْ بَدَأَ بالإنكَارِ عَلَى الطَّريقَةِ، قَال: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ} وهَذَا استِفهَامُ إنكَارٍ وتَوبيخٍ.
ثم قال: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ} يَعْنِي: عَنْ دعوَتِك إيَّايَ عَنِ التَّوحيدِ {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ} وعيدٌ يَقُولُه الأَبُ لابْنِهِ، وابْنُه يَتَرقَّقُ لَهُ، ويَتحنَّن إلَيهِ بقَولِهِ: {يَاأَبَتِ} {يَاأَبَتِ} {يَاأَبَتِ} وهَذَا جَوابُ الأَبِ.
وهَذَا القَولُ: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ} قَالهُ أيضًا غيرُهُ مِنَ المُكذِّبينَ للرُّسُلِ؛ فِرعَونُ قَال لمُوسَى عَلَيهِ السَّلَامُ: {لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: ٢٩].
ثُم قال: {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم: ٤٦]، يَعْنِي: اتْرُكْنِي {مَلِيًّا} أَي: زَمَنًا طَويلًا، يَعْنِي: يَقُولُ: دَعْنِي عَلَى مَا أنَا علَيهِ ولَا تُكلِّمْني، قَال: {قَال سَلَامٌ عَلَيكَ} [مريم: ٤٧] هذِهِ النِّهايَةُ مِنْ إبراهِيمَ، فَمَا أَحلَمَهُ عَلَيهِ ألصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ! ولهَذَا قَال اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: ١١٤]، قَال: {سَلَامٌ عَلَيكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: ٤٧]، فاستَغْفَرَ لَهُ حتَّى نَهَاهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ.
الشَّاهِدُ مِنْ هَذَا: أَنَّ أبَا إبراهِيمَ كَانَ مُشرِكًا اسْمُه آزرُ، كَمَا قَال عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذْ قَال إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً} [الأنعام: ٧٤]، العجَبُ أن بعْضَ النَّاسِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute