للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فقالت: {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ} حسبما سمعتن وقلتن، فاستعصم وهي للمبالغة في عصم نفسه، أي اعتصم اعتصام معصوم، جاعلاً المراودة خطيئة عصم نفسه منها، بل دل هذا البناء كذلك، وهو استعصم وهو بناء مبالغة على الامتناع الشديد والتحفظ البليغ، كأنه في عصمة وهو يجتهد في الاستزادة منها مثل استمسك واستجمع الرأي، وفي ذلك برهان نير على أنه لم يصدر عنه - عليه السلام - شيء مخل باستعصامه من الهم وغيره بقوله: {مَعَاذَ اللَّهِ} ويدل على ذلك أيضًا ترتيب كلامها بأنها اعترفت لهن أولاً بما كُنَّ يسمعنه من مراودتها له، وأكدته بقولها: {وَلَقَدْ} بالقسم ولام التوكيد إظهارًا لابتهاجها بذلك، ثم زادت على ذلك أنه أعرض عنها على أبلغ ما يكون الإعراض، ولم يمل إليها قط، وزادت أيضًا أنها مستمرة على ما كانت عليه غير مرعوية عنه لا بلوم العواذل ولا بإعراض الحبيب بل قالت: {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ} (١).

ثانيًا: قولها: {الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ}. الآن: ظرف للزمان الحاضر، وحصص: أي ثبت واستقر، والحق: هو براءة يوسف - عليه السلام - مما رمته به، وإنما ثبت الآن؛ لأنه كان محل قيل وقال فزال ذلك باعترافها بما وقع، وتقديم اسم الزمان للدلالة على الاختصاص، أي الآن لا قبله للدلالة على أن ما قبل ذلك الزمان زمن باطل وهو زمن تهمة يوسف - عليه السلام -.

والتعبير بالماضي في حصحص، مع أنه لم يثبت إلا من إقرارها الآن فهو لتقريب زمن الوقوع من الماضي، أو لأن الحق ثابت من قبل في براءة يوسف - عليه السلام - من المراودة (٢)، وكل ذلك يدل على انتفاء أي تعلق لاتهام يوسف - عليه السلام - بأي أمر مشين.


(١) انظر أبا السعود" إرشاد العقل السليم" (١٠٣/ ٣)، والطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير" (٢٦٦/ ١٢).
(٢) انظر الطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير" (٢٩١/ ١٢).

<<  <   >  >>