وذلك ما قاله عيسى - عليه السلام - في المهد. إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيًا. ومن ثم صح أن إتباع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إتباع لله، وبيعته بيعة لله، وطاعته طاعة لله، فقال:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}[النساء: ٨٠]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (١٠)} [الفتح: ١٠]، وقال:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}[آل عمران: ٣١]، إن مفتاح شخصيته هو النبوة التي ثبتت له بلا مرية ولا شك وكل شيء يقع منه يفسر بحساب النبوة، لا بتدابير البشر وحدها، وإلا ما الفارق بين من يوحى إليه وهو مرتبط بأمر السماء، وبين سائر البشر:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ}[الكهف: ١١٠].
فإذا صح عندنا بالواقع والعقل وغيرهما أنه نبي تغيرت الحسابات، وتبدلت الموازين، وصرنا إلى حال جديد، وسرنا في طريق آخر له قيمه وأخلاقه واعتقاداته ومعاملاته وبدأنا في دفع ضريبة هذا التمسك بذلك الطريق.
إذا نظرنا إلى كلمات أخرى تفسر النبوة في قصة عيسى - عليه السلام - رأيناه يقول:{وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} وهو يجلي هذه البركة التي سمعنا عنها في سيرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويصدقها، إن قصة رضاعه في ديار بني بكر وما حدث بمجيئه من خصب بعد الجدب، وري بعد الظمأ، وشبع بعد الجوع، وطيب عيش بعد اللأواء والجهد حتى كان البدو يقولون لأولادهم ارعوا في المكان الذي ترعى فيه حليمة، من عظم ما رأوا من البركة، ليدلنا على كلمات الله التي نطق بها عيسى - عليه السلام -، وتحققت في موصولي الأرض بالسماء من أنبياء الله تعالى وخاتمهم محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
إن حلول بركته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التي ينفي لها "وات" وأمثاله القصة من أولها أو يشكك فيها ليس إلا لنفي النبوة، ومع ذلك فقد صرحت بها كلمات الله التي فاه بها عيسى - عليه السلام - عن الله جل وعلا في المهد بما لا يمكن تكذيبه أو دفعه أو تأويله.