مما سلف من القول يتضح لنا أن الأخلاق منها ما هو كسبي، ومنها ما هو جبِلِّي طبعي، وإن الكسبي إنما هو لأخلاق معلومة ظاهرة في الواقع يحاول الإنسان أن يتخلق بها بالتدرب عليها، ورياضة النفس بها، وبالتالي لا يمكن أن تكون نتاجاً للعقل، إذ العقل قد وجد، وهذه الأخلاق متقررة في الواقع وموجودة.
فإذا طبقنا هذا الكلام على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنه لا مناص من أن نقول إن أخلاقه كلها جبلِّية، لأنه أتى قومه بدعوته، وليس هناك مغمز واحد يغمز، أو غمز عليه في أخلاقه باتفاق المخالف والموافق ساعتها، وإلى الآن، ثانيًا أتاهم يدعوهم إلى مكارم الأخلاق، وقد فاقهم في أخلاقه بما لا طاقة لهم به، بمعنى أن الفارق بين أخلاقه وأخلاقهم كان في الدرجة العليا التي يستطيع بها أن يدعوهم إليها، وأن يرشدهم إليها إذ كيف يدعوهم وهو مثلهم، بقى هذا الفارق الأخلاقي العظيم كما هو، بل زاد، فلو كانت الأخلاق من مفرزات العقل الإنساني فلم اختص بها محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والعقول متقاربة في البيئة العلمية والثقافية والاجتماعية الواحدة.
وقد يأتي هذا الإعتراض - كاعتراضات المستشرقين - إنه كان يتحنث في غار حراء حتى ادّعى النبوة، وهي تلك التأملات التي قادته إلى ما ادّعى!
ونقرر كما ينبغي أن يقرر العقلاء بإنصاف، هل كان يتحنث ليتعلم الأخلاق؟ لم يقلها أحد، ولا رماه بها أحد ولا يستطيع، لأنه ليس من عادة العرب أن يكون كذلك. وكيف يكون شهراً في العام لعدّة أعوام سبباً لهذا العلو الأخلاقي، والسمو العقلي؟ وكيف ولِمَ لم
(١) محمد عبد الله دراز، "دستور الأخلاق في القرآن"، ص٣٥، وانظر "موسوعة نضرة النعيم" (١/ ٦٥ - ٦٦).