للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَضَافَ الْفِعْلَ إِلَى هَذَا الْمَخْلُوقِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا هُوَ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ قَدِ اتَّحَدَ بِالنَّاسُوتِ الْبَشَرِيِّ لَبَيَّنَ أَرْمِيَا، وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ذَلِكَ بَيَانًا قَاطِعًا لِلْعُذْرِ، وَلَمْ يَكْتَفُوا بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي هِيَ إِمَّا صَرِيحَةٌ أَوْ ظَاهِرَةٌ فِي نَقِيضِ ذَلِكَ، أَوْ مُجْمَلَةٌ لَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ إِخْبَارَهُمْ بِإِتْيَانِ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَمْرٌ مُعْتَادٌ مُمْكِنٌ، وَمَعَ هَذَا يَذْكُرُونَ فِيهِ مِنَ الْبِشَارَاتِ وَالدَّلَائِلِ الْوَاضِحَةِ مَا يُزِيلُ الشُّبْهَةَ.

وَأَمَّا الْإِخْبَارُ بِمَجِيءِ الرَّبِّ نَفْسِهِ وَحُلُولِهِ أَوِ اتِّحَادِهِ بِنَاسُوتٍ بَشَرِيٍّ فَهُوَ: إِمَّا مُمْتَنِعٌ غَيْرُ مُمْكِنٍ كَمَا يَقُولُهُ أَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَيَقُولُونَ: يُعْلَمُ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ أَنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ.

وَإِمَّا مُمْكِنٌ كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ، وَحِينَئِذٍ فَإِمْكَانُهُ خَفِيَ عَلَى أَكْثَرِ الْعُقَلَاءِ وَهُوَ أَمْرٌ غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَإِتْيَانُ الرَّبِّ بِنَفْسِهِ أَعْظَمُ مِنْ إِتْيَانِ كُلِّ رَسُولٍ وَنَبِيٍّ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ إِتْيَانُهُ بِاتِّحَادِهِ بِبَشَرٍ لَمْ يَظْهَرْ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ مَا يَخْتَصُّ بِالْإِلَهِيَّةِ، بَلْ لَمْ يَظْهَرْ عَلَى يَدَيْهِ إِلَّا مَا ظَهَرَ عَلَى يَدِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَا هُوَ مِثْلُهُ أَوْ أَعْظَمُ مِنْهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَانَ يُكَلِّمُ مُوسَى وَلَمْ يَكُن مُوسَى يَرَاهُ، وَلَا يَتَّحِدُ لَا بِمُوسَى وَلَا بِغَيْرِهِ، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ أَظْهَرَ مِنَ الْآيَاتِ عَلَى ذَلِكَ، وَعَلَى نُبُوَّةِ مُوسَى مَا لَمْ يَظْهَرْ مِثْلُهُ وَلَا قَرِيبٌ مِنْهُ عَلَى يَدِ الْمَسِيحِ.

فَلَوْ كَانَ هُوَ بِذَاتِهِ مُتَّحِدًا بِنَاسُوتٍ بَشَرِيٍّ لَكَانَ الْأَنْبِيَاءُ يُخْبِرُونَ بِذَلِكَ إِخْبَارًا صَرِيحًا بَيِّنًا لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَاتِ، وَلَكَانَ الرَّبُّ يُظْهِرُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ مَا لَمْ يُظْهِرْ عَلَى يَدِ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ، فَكَيْفَ وَالْأَنْبِيَاءُ

<<  <  ج: ص:  >  >>