للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَإِنْ كَانَ إِيجَابُهُ لِجِهَادِ الْمُحَارِبِ الْمُبْتَدِئِ بِالْقِتَالِ لَا يُنَافِي مُجَادَلَتَهُ، فَلَأَنْ يَكُونَ جِهَادُ مَنْ لَا يَبْدَأُ الْقِتَالَ لَا يُنَافِي مُجَادَلَتَهُ أَوْلَى وَأَحْرَى، فَإِنَّ مَنْ كَانَ أَبْعَدَ عَنِ الْقِتَالِ كَانَتْ مُجَادَلَتُهُ أَقَلَّ مُنَافَاةً لِلْقِتَالِ مِمَّنْ يَكُونُ أَعْظَمَ قِتَالًا. يُبَيِّنُ هَذَا:

الْوَجْهُ الْخَامِسُ: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: الْمَنْسُوخُ هُوَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْجِدَالِ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مَأْمُورًا أَنْ يُجَاهِدَ الْكُفَّارَ بِلِسَانِهِ لَا بِيَدِهِ، فَيَدْعُوهُمْ وَيَعِظُهُمْ وَيُجَادِلُهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَيُجَاهِدُهُمْ بِالْقُرْآنِ جِهَادًا كَبِيرًا، قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا - فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: ٥١ - ٥٢] .

وَكَانَ مَأْمُورًا بِالْكَفِّ عَنْ قِتَالِهِمْ لِعَجْزِهِ وَعَجْزِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ لَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَصَارَ لَهُ بِهَا أَعْوَانٌ أُذِنَ لَهُ فِي الْجِهَادِ، ثُمَّ لَمَّا قَوَوْا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْهِمْ قِتَالُ مَنْ سَالَمَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَطِيقُونَ قِتَالَ جَمِيعِ الْكُفَّارِ.

فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ مَكَّةَ وَانْقَطَعَ قِتَالُ قُرَيْشٍ مُلُوكِ الْعَرَبِ، وَوَفَدَتْ إِلَيْهِ وُفُودُ الْعَرَبِ بِالْإِسْلَامِ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقِتَالِ الْكُفَّارِ كُلِّهِمْ إِلَّا مَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ مُؤَقَّتٌ، وَأَمَرَهُ بِنَبْذِ الْعُهُودِ الْمُطْلَقَةِ، فَكَانَ الَّذِي رَفَعَهُ وَنَسَخَهُ تَرْكَ الْقِتَالِ.

وَأَمَّا مُجَاهَدَةُ الْكُفَّارِ بِاللِّسَانِ، فَمَا زَالَ مَشْرُوعًا مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ إِلَى آخِرِهِ،

<<  <  ج: ص:  >  >>