أصدقاء خاله الكريم محب الدين: تيمور باشا والرافعي وأحمد أمين وعزام والخضر التونسي والغمراوي، ونسي جمعية الشبان المسلمين عند دار النيابة، وولّى وجهه شطر المحطة، فلم تكن إلاّ ساعات حتى كان هذا الفتى يودع القاهرة التي دنت له فيها الأماني ويركب متن الشوق إلى البلد الحبيب، لم يدرِ أنه ودّع -يوم ودّع مصر- مستقبله الأدبي ومجده، ونبوغه واستعداده، وفارق الأرض الخصبة الريانة يحمل بذوره لينثرها على الصخر الصلد ويرجو لها النبات! وترك القاهرة ورجع إلى البلد الذي يموت فيه الأديب، وكان ذلك أولَ سطر في صفحة شقائه!
هذا الشاب الذي كان يتدفق حياة، ويتوثب نشاطاً، والذي كان له في كل ميدان جولة وكان في كل معمعة فارسها المعلم، والذي عمل للأدب وللإصلاح، وللسياسة وللصحافة، وللتعليم وللتصنيف، والذي عرفته العراق وعرفها، وأحبها وأحبه تلاميذه فيها، وبقي فيهم من يفي له ويذكر عهده وبقي هو وفياً للعراق ذاكراً عهدها. وكان شأنه في لبنان كشأنه في العراق، والذي مشى إلى الحجاز، وكان له في كل بلد أثر في نفوس أصدقائه وفي قلوب الآلاف المؤلفة من تلاميذه، الذين ما انفكّ يوليهم من نفسه وقلبه حتى لم يبقَ له نفس ولا قلب ... هذا الفتى أعادته الأيام بعد هذا كله شيخاً ولم يبلغ الأربعين، ميتاً يمشي مكفَّناً في جبة، وضُيّقت رحاب نفسه حتى أحاطت بها مواد القانون، وحطمت قلمه فتعثر فهو لا يجري إلاّ في حيثيات القرارات وصيغ المخالفات، وصَغُرت دنياه حتى صارت تحدّها جدران المحكمة الأربعة ... فماذا -يا سيدي- يرجى منه بعد هذا؟