قضى عليه بلده الذي أحبه وفارق من حبه مصر بعدما بسم له فيها المستقبل عن ثنايا بوارق، ولو أنه بقي في مصر، ومصر (موطن أسرته الأول) تعرف للأدب حقه وللأدب منزلته، لكان منه اليوم «شيء»!
على أن مصر -إن أردت الحق- لا تحب إلاّ أبناءها ولا تبسم إلاّ لهم، وترى واحد الأديب المصري مئة، ومئة غيره لا تساوي عندها واحداً. وإلاّ فخبّرني بالله: لمَ يحتفل نقّادها بأصغر كتاب يصدر فيها ويشتغلون بالكلام عنه الأيام الطوال، ولا يخطّون كلمة ثناء أو نقد للكتاب القيم يصدر في بر الشام أو في العراق؟
وما له يعتب على مصر، وهذا بلده طاشت فيه الموازين وانقطعت الأسلاك وتبلبل الرأي، واختلط الحابل بالنابل والمتحليات بالعواطل، حتى إن الصحف لتجمع على مدح الكتاب وتقريظه وتهلل للشعر الجديد وتصفق، وما ثَمّ إلاّ منكَر من القول قد صيّروه معروفاً، أو ثقيل بارد استحبّوه أو غثّ متهافِت رأوه قوياً بليغاً؛ كأن الأدب صار لهواً وعبثاً، وكأن العربية انحلّت عُقَدها ولم يبقَ لها هذا «الكتاب» تعتصم به، فيحفظ عليها وحدتها ويكون بين أولها وآخرها السببَ الموصول والحبل المتين، فقديمها به حديث أبداً نفهمه اليوم ونتذوقه، وحديثها به قديم لو نشر الله العرب الأولين لفهموه وتذوقوه ... وكأن الأديب هو من ينزع عن جسمه جلدَه ليلبس جلداً مصنوعاً في المعامل التي هي (هناك)، ومن يود لو خلع رأسه ليركّب له رأساً فيه عقل من (هناك)، والذي يفرق بالجهات بين الحق والباطل، فما جاء من حيث تشرق الشمس كان باطلاً كله ولو كان الدينَ والأخلاق والشرف، وما جاء من حيث تغيب فهو