منه ولا أعظم ولا أرسخ أساساً ولا أعلى ذُرَى. ولم يكن يرانا الناس إلاّ معاً، ولا يقولون إلا أنور وعلي وعلي وأنور، وربما خلطوا فقالوا علي العطار وأنور الطنطاوي!
لقد كانت أيام بغداد أجدى الأيام على أنور، ففيها اختزن في نفسه أجمل الصور، وفيها نظم أروع القصائد، وفيها ابتدأ في حياة الشاعر عهد جديد هو عهد الشعر القومي: شعر الحماسة الوطنية، فازدادت بذلك هذه القيثارة السحرية وتراً جديداً خرجت منه أطيب النغمات.
رأيت هذا كله فأحسست أن الدنيا تدور بي، واختلطت عليّ الصور وتداخلت المشاهد، فلم أعد أستطيع أن أتبين شيئاً ولم أستطع أن أكتب شيئاً.
* * *
ورأيت فصول (الفِلم) تتتالى، فإذا نحن في سنة ١٩٣٠ وقد بقيت بلا عمل (عقب عودتي من سفرتي الثانية من مصر)، فأخذني أنور إلى إدارة فتى العرب فقدمني إلى معروف الأرناؤوط لأعمل معه في الجريدة. وقد عملت معه شهوراً، وصارت الجريدة ملتقانا أنا وأنور، وصارت مدرستنا الثانية نأخذ فيها من نفس معروف ومن أدب معروف. وما رأينا في الأدباء مَن هو أحلى حديثاً وأظهر صفاء وأملأ بالأدب الحق من فرعه إلى قدمه من معروف، إذ كنتَ تشعر وأنت معه أنه يعلو بك عن المادة ويسمو عن المطامع، ويوصلك بحديثه وابتسامته وطفولته إلى عالم كله حب وعاطفة