رأيت هذا كله، فحرت ماذا أصف وعمَّ أتكلم. وكيف أستطيع أن أجمع في كلمات دنيا من العواطف وعالماً من الذكريات وآلافاً مؤلفة من المشاعر كانت أَثْبَتَ من الزمان لأنها بقيت وقد ذهب الزمان، وكانت أجمل من العمر لأنها هي جمال العمر؟
رأيت «هذا» كله، وما «هذا» إلاّ تلخيص لحياة أنور، الشاعر الذي عاش حياته كلها كما يعيش الشعراء الخلّص الملهَمون، شعراء القلب والروح واللسان لا شعراء الألفاظ وحدها والبيان، الشاعر في قلبه المتفتح أبداً للجمال المترع بالخير الممتلئ بالحب، وفي لسانه الذي يفيض أبداً بالبيان وينفث السحر الحلال.
وفي هذا التلخيص تحليل شاعرية أنور؛ فإذا أخذتم عليه أنه كان حليف الحزن صديق الأسى، قد وقف شعره على تقديس الألم العبقري فبكى الأحلام الضائعة كما بكى الأوراق المتناثرة في «الخريف»، وخلّد مظاهر الأسى في النفس وفي الطبيعة، فاعلموا أنه لم يكن يستطيع غير ذلك، وأن الشاعر لا يطبع نفسه كما يشتهي ولكن يطبعه الله بطابع البيئة والزمان، ويكوِّن مشاعره في طفولته قبل أن يشعر هو ليكوِّن مشاعره كما يريد، ولو استطاع أن يصغر فمه أو يجمل أنفه لاستطاع أن يبدل قلبه ويحول عواطفه!
وقد نشأ أنور مثلما نشأت أنا، وفتح عينيه على الدنيا والحرب العالمية قائمة (١)، ودمشق في أشد أيامها، ومظاهر البؤس والألم في كل مكان، فكان يرى الازدحام كل صباح على الفرن