(ولم يكن يفتح منه إلاّ كوّة صغيرة يبرز منها رأس الخباز ليعطي السعيد من الناس كتلة سوداء لا يعرف ما هي على التحقيق، وإن كان يعرف أن اسمها «الرغيف») والجياع ينبشون المزابل ويأكلون قشور البطيخ، والنساء يعملن من دون الرجال لأن رجال دمشق قد أكلتهم الحرب، والاسم المرعب، اسم جمال باشا، يملأ القلوب فزعاً. ثم رأى المشانق وشهد المآتم، فامتلأت نفسه بهذه الصور القاتمة حتى لم يبقَ فيها مكان لغيرها، وإذا هو رأى الأعراس والأفراح أيام الشريف فإن هذه الأيام لم تكد تبدأ حتى انتهت، ولم نكد نستمتع بفرحة الاستقلال في حفلة التتويج حتى ذقنا غصة الانتداب في مأساة ميسلون.
فلا تلوموا أنور إن كان الحزن طابع شعره، وأن الفرح فيه مثل الفجر الأول لا يكاد يبدو بياضه في الأفق حتى تبتلعه بقايا الليل، فهذا هو السبب. ولا تلوموه إن تغزل فتكلم عن الرؤى والأحلام وترك الحقائق وعلا إلى سماء الخيال ولم ينزل إلى أرض الواقع، وأنه عمم وجَمْجَمَ فلم يخصص ولم يصرّح، فإن البيئة التقية التي نشأ فيها أنور لم تكن ترى في الحب إلاّ «ذنباً» على صاحبه أن يستغفر الله منه، وأنا أؤكد أن أنور كـ «نصيب» الشاعر الذي سمّى قوسه ليلى ليتغزل بها. إن أنور لم يتصل في حياته بفتاة على نحو ما يفعل شباب اليوم، وإنه كان أعف وأشرف من أن يفكر في هذا أو يحاوله، فمن هنا جاء الذي تلومونه عليه.
ولا تأخذوا على أنور أنه حبس نفسه في هذه الدائرة الضيقة وقصر عليها شعره ولم يخرج إلى الفضاء الأرحب، ولم يعش في الدنيا الواسعة التي يعيش فيها أكثر الشعراء والناس، فإن أنور