أمضى صباه (كما أمضيت صباي) في عالم ضيق كانت حدوده تلك المسالك الملتوية الموصلة إلى مكتب عنبر، وتلك الساقية الصغيرة المطيفة بمقبرة الدحداح، وذلك الطريق الموحش الذي كان ينتهي عنده العمران ويبدأ منه عالم الظلام والفزع واللصوص، والذي كان اسمه «قفا الدور» فصار يسمى اليوم «شارع بغداد»، أفخم شوارع دمشق الجديدة.
إن أنور يخشى اليوم أن يفارق عالمه الشعري الذي أحبه أو يتجاوز حدوده، كما كان يخشى من قبل أن يتجاوز قفا الدور أو يتخطى مكتب عنبر. ولكن عالم أنور الشعري عالم واسع على ضيقه لأنه عالم القلب، ولأنه متصل بالله؛ وقد تضيق على المرء الأرض كلها إن اقتصر عليها ولا يضيق عليه شبر واحد سما حتى اتصل بالسماء.
وعاش أنور في عهد جِد ويقظة وإقبال على العلم والعمل، وحفظ أنور عشرات القصائد من جِياد أشعار العرب، فجاء أسلوبه كالماء الصافي، فيه عذوبة ولين وفيه -إن تدفق- قوة ومضاء، وكان في شعره أثر الجد ومؤهلات الخلود، لا كأشعار أصحاب المناسبات وطالبي إعجاب العوام. وكان نسجه كالحرير المتين المفوف المنقوش النقش البارع، لا كالنسج الرخيص الذي يتمزق من اللمس وتذهب ألوانه من رؤية الشمس!
ما مشى أنور على الطريق الذي فتحه له مَن قبله، بل على طريق شقه هو لمن بعده، وكان أنور إمام جماعة الشباب ولم يكن مؤتمّاً تابعاً، ولولا نفَس من شعر شوقي في مثل «ليل الحزين»