للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

انقطاع، وكل حي إلى ممات، ولكنها أماني النفوس ... حتى جاءني الزميل الكريم الأستاذ نورس الجندي من أربعين يوماً (لا كنتِ يا هذي الأربعون) فقال لي والوجه ملتاع وفي الصوت ارتجاف: عظّمَ الله أجرك بالأستاذ سليم! ومرَّ على خاطري كل سليم أعرفه إلاّ الأستاذ الجندي، وقلت له: من؟ قال: أستاذكم سليم الجندي. وشُدهت ولبثت دقيقة لا أفقه ما يقول، لأن هذه الكأس أكبر من أن تُساغ بجرعة، ورحت أتجرعها على مهل حتى فهمتها.

فهمت أنه قد مضى الرجل الذي لم يبقَ تحت أديم السماء مَن هو أعلم منه بلسان العرب: لغة واشتقاقاً ونحواً وبلاغة وعَروضاً ورواية وضبطاً، ولا مَنْ هو أوفى لها وأغير عليها. وأنه لم يعد في ديار الشام مَنْ أستطيع أن أذهب إليه أنا والأفغاني والعطار (١) كلما دَهَمتنا عِظام المشكلات في العربية، نحملها إليه ليحل لنا عقدها. ولم يبقَ في الدنيا كلها من نقول له في العربية: «يا أستاذنا»، وأن علينا بعد اليوم أن نعتمد على أنفسنا كما يعتمد الضابط على نفسه حين يفتقد القائد العبقري وسط المعمعة الحمراء. وهيهات أن يسد أحد مكان قائد المعركة بين العربية والعجمة، حجة العرب، سليم الجندي (٢)!


(١) سعيد الأفغاني وأنور العطار، كانا وعلي الطنطاوي أصدقاء الطفولة والشباب. كان الأفغاني من علماء النحو الكبار في الشام وتوفي بمكة سنة ١٩٩٦ ودُفن فيها، وأنور هو الشاعر الذي مرت بنا مقدمة ديوانه آنفاً، توفي سنة ١٩٧٢ في دمشق (مجاهد).
(٢) في «الذكريات» تحدّث علي الطنطاوي عن أساتذته في مكتب عنبر، فذكر سليم الجندي وعبد القادر المبارك، ثم قال: "لقد ماتا وما أعرف تحت قبة الفلك أعلم منهما بالعربية" (١/ ١١٨) (مجاهد).

<<  <   >  >>