ولم أعد أستطيع أن أقول لهؤلاء الإخوان، وللزركلي والجيرودي (١)، كلما رابنا ريب الحياة وشجانا زيف المودات وفقد المروءات: هلمّ إلى الجندي نجد عنده مثل الذي يجده الغريق حين ترفعه يد المنقذ إلى طلق الهواء.
لقد تحققت أن سليم الجندي مات، فأحسست كأن قد زاغ بصري وزلزلت أعصابي ومرّ في أذنيّ نهرٌ هدّار. لا تظنوا أني أبالغ أو أتخيل خيال شاعر؛ لا، وما أنا بالشاعر وما صناعتي نسج التهاويل. ما أنا إلاّ مصوّر يحمل آلته يطوف بها، يصوّر مشاهد الحياة وخطرات النفس، مصور فطوغرافي مسكين ينقل صوره نقلاً، ولست المصور المبدع الفنان الذي يحمِّل لوحاته ما لم يكن ولا يكون ... مخلوق يدب على أرض الواقع على حين يضرب الشعراء أمواج الجو بأجنحة النسور.
وليست هذه هي الصدمة الأولى؛ لقد عراني مثلها مرات من قبل. عرتني يوم مات أبي، وكان لي أباً وكان لي معلماً، كما كان للعشرات من أكبر رجال هذا البلد اليوم. وما أمدح أبي، وهل قمت هذا المقام للفخر؟ ولكني أقرر إحدى الحقائق. ويوم مات شيخ الشام وأستاذ كل متعلم فيها ممن هم اليوم فوق الأربعين، الشيخ عيد السفرجلاني. ويوم مات أذكى إنسان عرفته، لا أستثني
(١) سليم الزركلي ومحمد الجيرودي، الأول شاعر والثاني محامٍ، وكلاهما من رفاق علي الطنطاوي في المدرسة ولهما أخبار في ذكرياته المنشورة (مجاهد).