وكان التركي هو اللسان الرسمي للبلاد، به يخاطب الحاكمون وينشد أغانيه المنشدون. لقد حسب الاتحاديون أنهم بهذا يقضون على العربية ويرثون أمجادها ويدّعون لأنفسهم مكارمها. أرأيتم الصبي الهزيل يلبس ثوب العملاق؟ أأبصرتم الأحمق الذي يلصق بالصمغ ورقة على وجه أبي الهول عليها اسمه، ليصحح خطأ التاريخ ويثبت أنه هو الذي نحت أبا الهول؟! هذا هو مثال الاتحاديين الذين ظنوا أنهم -بلغة ملفقة محدثة، وبمئة قصيدة وقصة، وبالسيف المصلت على أعناق العباد- يستطيعون أن يقتلوا اللغة التي كانت معجزة العبقرية الإنسانية؛ لأنها لم تنشأ كاللغات، فالتاريخ يعرف طفولة كل لغة وشبابها ويعرف تدرّجها في طريق الكمال، أما العربية فلم يعرفها التاريخ إلاّ كاملة مكملة، لأنها أسنّ من التاريخ! ولكن مالي وما لهذه التفاصيل الآن؟ حسبكم أن تعرفوا أننا كنا في أواخر هذا الليل الذي خاضت حِنْدِسَه (١) العربيةُ، وكانت تتخبط فيه في مسراها على غير هدى لولا من حملوا لها المصابيح تحت طِباق الظلام، أولئك الأعلام من رواد هذه النهضة الجديدة.
وعلى ضوء هذي المصابيح وَضَحَ للسارين الدرب، فسار الركب، وكان الفجر قد حل، ولكن سحابة الاتحاديين كانت تحجبه عن العيون (قلت الاتحاديين ولم أقل الأتراك)، فلما انزاحت السحابة ملأ الأفقَ نورُ الفجر. ونُشرت رسائل وكتب، وألقيت خطب ومحاضرات، وكان النادي العربي ... ومن عجب أن قام النادي العربي أمام «أوتيل فيكتوريا» حيث كان ينزل جمال
(١) الحِنْدِس: الظلمة، أو الليل الشديد الظلمة (مجاهد).