السفاك! وعرفنا لأول مرة أن في الدنيا أدباً عربياً، وشعراً عربياً، وخطباء يخطبون في غير المساجد ومن غير ديوان ابن نباتة المرتَّب على الشهور والأسابيع، الذي كان يحفظه السامعون من المصلين مثلما كان يحفظه الخطيب! ومرت أيام، ودُفن الاستقلال الوليد في وادي ميسلون، ولكن النهضة بقيت عائشة، ولبثت تسير قدماً حتى أثمرت مجلة «الرابطة الأدبية» التي صدر العدد الأول منها في الأول من أيلول سنة ١٩٢١. وكان والدي من المشتركين فيها فكنت أقرؤها. ولئن قرأت قبلها كتباً من كتب الأدب القديم، ثقفت المعوجّ من بياني وقومت لساني، فإن أول ما قرأته من الأدب الجديد على الإطلاق هو مجلة الرابطة.
ورأيت بين كتّابها كاتباً ظهر لي من بحثه، ظهر لي وأنا في تلك السن (صدّقوني) أنه من وزن آخر، وأنه أرجح وأوقر، وأنه كان يمسك هو بمفاتيح القاموس ويمتلك كنوز اللغة، فهو يعطي الألفاظ للأدباء يقولون وهو يهذّب مقالهم، ويكتبون وهو يصحح كتابهم، فتصورته كأستاذ بين تلاميذ بارعين. ثم رأيت صورته فصدق النظرَ التصور، لأني رأيتهم شباباً ورأيته كهلاً بينهم، بصلعته وهيبته ولحيته ... أو تخيلته كهلاً. وكانت هذه هي أول مرة سمعت فيها باسم الجندي.
ومن مباحث الجندي في «باب تهذيب الألفاظ» في «الرابطة» تعلمت أن في الدنيا شيئاً اسمه علم اللغة والتحقيق اللغوي.
وكانت المدرسة السلطانية الثانية التي كنا طلاباً فيها على عهد الشريف قد ألغيت، وذهبنا إلى مكتب عنبر، الثانوية الوحيدة في