وفي يوم من أيام سنة ١٩٢٣ دخل علينا الشيخ عبد الرحمن سلام، ولكن لا كما كان يدخل كل يوم، وألقى خطبة، ولكن لا كما كان يلقي؛ دخل حزيناً وألقى خطبة الوداع، وذهب وذهبت معه قلوبنا.
وجاءنا مدرس جديد فقعد على الكرسي، وما كان الشيخ ليقعد عليه أبداً، وفتح كتابه يقرر الدرس بصوت خافت وكلام لا يكاد يُسمع. وكان الأفغاني إلى جنبي فقلت له: مَن هذا؟ قال آسفاً: هذا والد سيدنا ... وأشار إلى نجم الدين، قلت: الأستاذ سليم الجندي؟ قال: نعم.
أهذا هو الأستاذ سليم الجندي؟ أهذا الذي أعجبت به لمّا قرأت له في مجلة الرابطة؟ يا ضيعة الأماني! ويا حسرتاه على أستاذنا الذي أضعنا، على الشيخ سلام!
سلام على سلام. بل سلام على العربية؛ لقد زهدت فيها وعزفت عنها، وعزمت لأتوجهنَّ بالاهتمام إلى درس آخر من دروس المدرسة. ما لي وللعربية وهذا مدرّسها؟ مدرس لا يخطب ولا يرتجل الشعر ولا يتلاعب بمُهَج السامعين؟! ومرَّ بي الدَّوْر، فأخرجني الأستاذ فأقامني على اللوح وأملي عليّ بيتين للمعري، وقال: اقرأ وفسّر وأعرب.
فانطلقت كما علمنا سلام، انطلقت أخطب في موضوع البيتين خطبة حماسية مجلجلة، فإذا بالأستاذ يبتسم ابتسامة أحسست كأنها سكين في قلبي، وكأنها دلو ماء أُلقي على جمرة حماستي، وقال: بعدُ بعدُ، فسّر أولاً معاني الكلمات الغريبة.