ووقفت كما وقف حمار الشيخ في العقبة! وسألني عن دقائق الإعراب، فوقفت وقفة أخرى. قال: أرأيت؟ أتَبني الدار قبل نحت الحجارة؟
ورأيتُني حقاً أبني الدار قبل نحت الحجارة ... أبني دوراً في الهواء!
وصَغُرت عليّ نفسي بقدر ما كبر الأستاذ. وعدت أبدأ قراءة النحو والصرف من جديد. وكان الكتاب الذي نقرؤه «قواعد اللغة العربية»(الجزء الرابع من الدروس النحوية لحفني ناصيف وأصحابه)، وهو كتاب يغني المتأدب، بل الأديب، عن النظر في كتاب غيره، وهو أعجوبة في جمعه وترتيبه وإيجاز عبارته واختياره الصحيح من القواعد، وهو أصح وأوسع من شذور الذهب ومن ابن عقيل التي كنت أقرؤها على أستاذيَّ الجليلين الشيخ أبي الخير الميداني والشيخ صالح التونسي.
وعكفنا عليه وملأنا حواشيه البيض، ثم ألحقنا بين صفحاته صحائفَ نملؤها بفوائد الأستاذ وشواهده وزياداته. وعرفنا -يوماً بعد يوم- مقدار النعمة التي أنعم الله بها علينا حين جعلَنا تلاميذ الأستاذ سليم الجندي. وكنا نفاخر إخواننا الذين يُقرئهم الشيخ الداودي، ونأتي بالمعضلات والصعاب نتصيدها من كتب الأدب وأفواه العلماء فنطرحها عليه، فنحظى بأجمع الجواب بلا مراجعة ولا كتاب ويرجعون هم بلا جواب.
وما أنتقص الداودي رحمه الله، فلقد كان معلماً فاضلاً، وكانت له أخلاق أعطر من زنبق الحقل وأطهر من ثلج الجبل،