للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

من منام، أو ذكرت ماضياً، أو فكرت في آت، أو أغمضت عيني متأملاً، أو فتحتهما على مشهد من مشاهد السماء والأرض ... أجد في كل ذلك موضوعاً لمقالة أكتبها أو فصل أُنشئه، وأجد الهمة حاضرة والذهن نشيطاً. ثم كرّت أيام وغبر دهر، وأصبحت لا أستطيع أن أخط سطراً على قرطاس، وإذا كتبت لم أدر كيف أكتب ولا لماذا. وأبعث بالذي أكتبه إلى «الرسالة» مضطرب الأعصاب مزلزلها، فإن أخّرَتْه غضبت، وإن ألفَيتُ به تطبيعاً وخطئات لم ينتبه لها المصحح تألمت، وإن وجدته نسب إليّ ما لم أقل وجعل في المقالة أخطاء تدل على جهل الكاتب وما هي مني ولا أنا صاحبها عزمت على ترك الكتابة بالمرة وكَبُر عليّ الأمر. ثم إن جاءت المقالة منشورة قرأتها مرة لأطمئن عليها ومرة لأنقدها مجرّداً من نفسي ناقداً لها، ثم أرميها فلا أطيق النظر فيها، ولا أجد من يحدثني عنها كأني أكتب لصخور الجبل لا لبني آدم!

فماذا أفدت من الأدب؟ أما إني لم أجد الأدب إلاّ عبثاً ولم أجد الأدباء إلاّ مجانين! يسعى الناس وراء المال ويسعون وراء سراب خادع يسمونه «المجد الأدبي»؛ كلما أقبلوا عليه نأى عنهم فما هم ببالغيه حتى يموتوا ... وما ينفع ميتاً ذكر في الناس ولا يغني عنه مجد، ما ينفعه إلاّ ما قدّم من عمل صالح. ولقد كان رفيقي سعيد الأفغاني أعقل مني، إذ كان يمد شفته ساخراً كلما حدثته عن آمالي في الحياة ورغبتي في أن أكون كاتباً يشار إليه بالأصابع، وكنا يومئذ في المدرسة الثانوية نتسابق إلى مطالعة الكتب ونتبارى في تلخيصها والملاحظة عليها. فما صنع الزمان بآمالي؟ لقد أراني أني كنت أسعى أطلب السراب فلا أصل إلى شيء، وما ثمة شيء حتى أبلغه!

<<  <   >  >>