للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الجهّال ... أم هذه العزلة الحسية والروحية التي أبتُ إليها طوعاً أو كرهاً، فجعلت حياتي كالبركة الساكنة لا يسقط فيها حجر فيثير أوحالها ويخرج دررها؟

إني كلما أخذت القلم لأكتب أحسست أنه يحرن ولا يملكني زمامه، وأنه يستعصي عليّ ويستعصم مني، وأجدني أميل إلى مطالعة كتاب أو النظر في صحيفة، فأقبل على القراءة وأعوض على ذهني ما فاته منها في هذا الزمن الطويل. وإني لا أزال أحتاج إلى تعلم كثير مما أجهل، ولا يزال في الكتب ما لا أستوعبه في شهرين أو ثلاثة، ولست قائلاً مقالة ذلك الدعيّ الذي زعم أنه قرأ ديوان الفرزدق في خمسة عشر يوماً، ولا والله ما يفهم قصيدة منه واحدة في شهر ... ولا الذي ظن أنه علم كل شيء حتى ما يسائل واحداً عن علم مسألة لكي يزدادها! فأسلمتني المطالعة إلى الزهد في الإنشاء، ومال بي الزهد إلى إيثار الدعة وابتغاء السلامة ومحبة الخمول بعد الرغبة في الذكر، فسبحان مقلِّب القلوب!

ولقد كنت أشكو الغربة وأضيق بها، فصرت أشكو فقدها. ويا حبذا الغربة، وأنعم بها مثيراً للشعور موقظاً للهمم. كنت أتألم منها فأصف ألمي، وأشتاق فأصور شوقي، وأرى فيها جديداً فأنتبه إليه فأكتب فيه، فرجعت أمرُّ على المشاهد غافلاً عنها لأني آلفها كلها وأعرفها، ورجعت لا آلم ولا أسر، ولا أقول إني راض ولا مبتئس ... وهذا لعمري شرّ ما يمر على الأديب من الأحوال، وهذا هو الموت! ولربما شغلني سفساف الأمور وأضاع عليّ الكثير من وقتي. وهل ينفع القراء أن يعلموا أن عملي منذ شهر الطواف في أحياء دمشق من شرقها إلى المغرب، ومن شمالها

<<  <   >  >>