للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الكرّة وهي لا تبصر الجدار وإنما تبصر ما وراءه، فتحسب أنه ليس بينها وبين الفضاء حجاب. فجعلت أنظر إليها وهي تعمل دائبة، كلما ضربت مرة عادت تحاول أخرى لا تقف ولا تستريح، حتى عددت عليها أكثر من أربعين مرة، تجد الصدمة كل مرة فلا تعتبر ولا تدرك الحقيقة، ولا ترفع رأسها لتبصر الطريق وتعلم أن سبيل الفضاء وباب الحرية هو من «فوق» لا عن يمين ولا عن شمال ...

فتعلمت من هذه النحلة ما كان خافياً عني: تعلمت أننا مثل هذه النحلة نحسب أن الانطلاق إنما يكون على الأرض فنقدم، فتضرب العوائق وجوهنا وتردنا، فنقعد يائسين أو نعاود الكرة مستميتين، نحسب الانطلاق في الشهرة أو في المال أو في متع الجمال، وهيهات! وها هم أولاء السياسيون والممثلون والمغنون، تطبق الأرض بأحاديثهم ويشتغل الناس بأخبارهم، ويرون صورهم ويسمعون أصواتهم، فما الذي يحصل من ذلك في أيديهم؟ وماذا ينفعك أن يكون الناس كلهم يمدحونك إذا كنت منفرداً في غرفتك مبتئساً تَعِس النفس محزون القلب؟

وها هم أولاء الشباب الأغنياء، يؤمون كل ملهى ويستمتعون كل يوم بجمال جديد، فهل ذهب ظمأ قلوبهم إلى ارتياد منابع الجمال؟ هل شبعت شهواتهم؟ أم أن ذلك كالماء المالح كلما شربتَه جدّدَ لك ظمأً؟ وها هم أولاء المحبون المدنفون، يعانقون مَن يحبون، والنفس لا تزال بعد مشوقة ليس يرويها عناق ولا اقتراب، ولا يشبعها شيء من متع الجسد. وها هم أولاء «الملايِرة» (١) المؤلِّفون، هل أشبعت ملايينهم نفوسَهم ورزقتهم القناعة والاطمئنان؟

<<  <   >  >>