السفينة الغارقة يزين جدرانها بالصور ويكنس أرضها من الغبار، يقول لنفسه: ما دامت السفينة غارقة على كل حال فلِمَ لا أستمتع بساعتي التي أنا فيها؟ يُفسد عمرَه كله بصلاح هذه الساعة، وإذا عرض له العقل يسفّه عملَه فليضرب وجه العقل بكأس الخمر التي تعمي عينيه فلا يبصر ولا يهتدي، وإن من الخمر لخمرة المال وخمرة السلطان!
هذا مثال من يجعل هذه الدنيا الفانية أكبر همه ويزهد في الآخرة الباقية، ولو عقل لزهد في الدنيا. لا يحمل ركوته وعصاه ويسلك البراري وحيداً، ولا يقيم في زاوية ويمد يده للمحسنين؛ فإن هذا هو زهد الجاهلين، وهو معصية في الدين. إن الزهد الحق هو زهد الصحابة والتابعين، الذين عملوا للدنيا واقتنوا الأموال واستمتعوا بالطيبات الحلال وأظهروا نِعَم الله عليهم، ولكن كانت الدنيا في أيديهم لا في قلوبهم، وكان ذكر الله أبداً في نفوسهم وعلى ألسنتهم، وكانت الشريعة نبراسهم وإمامهم، وكانت أيديهم مبسوطة بالخير، وكانوا لا يفرحون بالغنى حتى يَبطروا ولا يحزنون للفقر حتى ييأسوا، بل كانوا بين غني شاكر وفقير صابر. ومَن يحصل المال وينفقه في الطاعة خيرٌ ممّن لا يحصل ولا ينفق بل يسأل ويأخذ، ومَن يتعلم العلم ويعمل به خيرٌ ممّن يعتزل الناس للعبادة في زاوية أو مغارة، ومَن يكون ذا سلطان ومنصب فيقيم العدل ويدفع الظلم خيرٌ ممّن لا سلطان له ولا عدل على يديه ... وليست العبادة أن تصفّ الأقدام في المحاريب فقط، ولكن كل معروف تسديه إن احتسبته عند الله كان لك عبادة، وكل مباح تأتيه إن نويت به وجه الله كان عبادة؛ إذا نويت بالطعام التقوي على