صارت لكم جنات، وما عجب أن نبكي منها وقد كانت علينا جحيماً. هي لكم مائدة، عليها الطعام اللَّذّ الخفيف في أجمل الأواني، وحولها الزهر والورد ومن ورائها الموسيقى، وقد كانت لنا طعاماً دسماً ثقيلاً، في أوسخ آنية وأقبح منظر.
ولكن من استطاع منا أن يأكل أكثر، وأن يهضم ما أكل، وأن ينتفع به؟ أنتم على كل هذه المشهّيات، أم نحن على كل تلك المنفّرات؟!
أنتم تلبسون للمدرسة أبهى الثياب، ونحن كنا نذهب والله بثوب النوم (السركس) الذي لا يصل لأكثر من نصف الساق، وفوقه رداء (جاكيت) الأب الذي رثّ فحوّلته الأم وصيّرته لنا، وفي الأرجل القبقاب أو الكندرة المصنوعة في المناخلية. ولقد صرت في الثانوية وما عرفت دكان الخياط، إنما ألبس ما تخيط أمي رحمها الله. وما كان فينا من اتخذ عقدة (كرافتة) حتى بلغنا البكالوريا، فأين هذه العناية التي تلقونها مما كنا فيه؟
ويراجع التلميذ اليوم درسه في داره على الكهرباء، وقد يكون لأولاد الأغنياء مكتب خاص يكتبون عليه، ونحن كنا نقرأ على ضوء الكاز (نمرة ٣)، وربما هبّت عليه نسمة هواء فتحرك فرسم على الجدار تهاويل كأنها صور الجن، وربما «شحَّرَ» وربما انقلب وسال زيته فأفسد الأوراق والكتب ... لم تكن هذه الكهرباء إلاّ في الطرق وفي قليل من البيوت، ولقد كانت أسرتنا من أسبق الناس إلى الاستضاءة بها، إذ مُدَّ إلى دارنا شريط من دار الجيران سنة ١٩١٦، وعرفت ضوء الكهرباء واستمتعت بها، ولكنها سبّبت