فلم يردّوا عليه، فعزم على الانتقام منهم إذا وصل حلبون. أما أنا فأزمعت على تملّقهم والتزلف إليهم، ليحملوا جثتي إلى أهلي إذا رمح بي البغل أو (عنفظ) فكسر رأسي أو دقّ عنقي.
ثم عدنا إلى منزل الشاعر في منين.
عمَّ أحدثك؟ إنك اشترطت عليّ أن أوجز، ومثل هذا الحديث من حقه أن يُتبسَّط به ويُسهَب ... ولكن ماذا أصنع بشرطك؟
لبثنا ساعة في منين، رشفنا فيها من راح الجمال ما أنسانا شقاء السيارة وغرائب الشعراء، جلسنا على سطح المنزل مجلساً نشرف منه على ذلك الوادي الفاتن، وكانت أشجاره عارية تبدو من فُرَج أغصانها عينُ منين وهي تجري في الوادي، تتلوى وتميل تتدفق أمواجها فيعلوها الزبَد، ثم تلامسها أشعة الشمس فترى منها -إذ تنعكس على تلك الخمائل الخضراء- منظراً عجباً، نِثَار الذهب على بساط من سندس، والجبال الشمّاء تحيط به كأنما هي أم رؤوم تحدب على طفلها.
وكأنما هذه الجبال تطل علينا تحدّثنا عن الماضي، وتصف لنا آثار الروم في بطاحها وقصورَ الغساسنة البلق المنتثرة على سفوحها، ثم تخبرنا عن المأمون إذ يجر هذا الماء إلى قاسيون فيبلغ به قمته (١)، وتفيض علينا من هذه الأخبار، فنحس كأن أرواحنا تخرج من قيود الزمن، ثم تتخطى أعناق القرون وتتغلغل في أودية الماضي السحيق، فتستغرق في هذا الحلم ولا تكاد تفيق
(١) قول مشهور لم أتثبّت صحته، والغالب أنه لا أصل له.