للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تكن قد عُرفت هذه القروش الورقية القذرة الممزقة التي يأنف المرء من مسّها)، فاجتمع لديّ مبلغ من المال هو بالنسبة إلى طفل مثلي ثروة كثروة بعض مَن عرفنا من المحتكِرين، ولكني أخذته حلالاً بطيب نفس وأخذوا هم ما أخذوه حراماً، انتزعوه من فم الأرملة واليتيم، فكان برداً على قلوبهم وسلاماً في لهب هذه الحرب (١)، ولكنه سيكون من بعد ناراً آكلة في أكبادهم، وسمّاً هارياً في أمعائهم، وغصة خانقة في حلوقهم، ولعنة متسلسلة في ذراريهم، وجحيماً متسعّراً يوم المآب. فارتقبوا -أثرياءَ الحرب- إنّا معكم من المرتقبين!

* * *

وكانت دارنا في العُقَيْبة، فكان أول ما لقيت من العيد «جامع التوبة»، هذا الجامع المأنوس الذي يملأ جوَّه دائماً خشوعٌ وأنس. ولم أكن أدري يومئذ ما الخشوع وما أنس الروح، ولكني أحسست فيه فرحة شاملة ملأت نفسي. وذهبنا إلى الأموي، وكان صوت التكبير ينبعث منه قوياً مجلجلاً كأنه هدير بردى عند شلال التكيّة، فشعرت بحال لم أعهدها في نفسي من قبل ولم أعلم ما هي، شعرت بالحماسة التي تغلي منها دماء المسلم حينما يسمع هذا النشيد السماوي الذي لم تسمع أذنا الأرض نشيداً بشرياً أروع منه روعة أو أشد أو أقوى؛ هذا النشيد الذي علمتُ -بعدُ- أن أجدادنا كانوا يهدرون به في أشداقهم فتتداعى أمامهم الحصون،


(١) يريد الحرب العالمية الثانية كما هو ظاهر من تاريخ إذاعة هذا الحديث (مجاهد).

<<  <   >  >>