قال صاحب "الإنصاف": كلام صاحب "الانتصاف" حسن إلا قوله: "مثل هذا التحرز، ولا يصدر من معطل"، فإنهل يس كذلك، فإن الغرض إذا انتفى ترجح الصدق عند كل أحد، لاسيما من سئل عند ظهور آية باهرة وإن لم يؤمن بعد، لاسيما إذا أريد إرشاد داهش متحير فسئل ليعلم، فإنه لا يكذب غالباً.
وقلت: ويمكن أن يرجح هذا القول بأن يقال: إنما عطفت قصة إبراهيم عليه السلام على قصة المار لأنهما اشتركا في أن وفقا لقمع ما قد يختلج في خلد ذلك المحق من الشبهة، فقول المار:(أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا) قريب من قول إبراهيم: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى)، وأما معنى الاستبعاد فهو ما ذكره الإمام: أنه ما كان عن شك في قدرة الله، بل بسبب اطراد العادات في أن مثل ذلك الموضع الخراب قلما يصير معموراً، ثم القصتان عطفتا على قصة نمروذ واشتركتا في أن يتعجب من كل منهما، ومما يشد من عضد هذا التأويل النظم والنقل، أما النظم فإنه تعالى لما ذكر قوله:(اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) والوجه المتصور على ما سبق: الله ولي المؤمنين يخرجهم من الشبه في الدين إن وقعت لهم بما يهديهم ويوفقهم له من حلها حتى يخرجوا منها إلى نور اليقين، والذين كفروا أولياؤهم الشياطين يخرجونهم من نور البينات التي تظهر لهم إلى ظلمات الشك والشبهة، عقبه بما يعجب به رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كل أحد، فذكر أولاً: قصة اللعين الذي أخرجه الشيطان من نور البينات التي أظهرها له الخليل عليه السلام إلى ظلمات الكفر والضلال، فقيل في حقه:(وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)، وثانياً: قصتي النبيين حيث وقفا فأخرجا من مضيق ظلمات الشك إلى فضاء نور اليقين حتى قال أحدهما: (أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، وقيل للآخر:(أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، نبه بالأول على كمال قدرته، وبالثاني على شمول علمه وغاية عزته، فتم فيها وجوب القول بإعادة الخلق بعد تلاشي أجزائهم.