ولأعرضوا عما يحتاجون فيه إلى الفحص والتأمّل من النظر والاستدلال، ولو فعلوا ذلك لعطلوا الطريق الذي لا يتوصل إلى معرفة اللَّه وتوحيده إلا به. ولما في المتشابه من الابتلاء والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه؛
قوله:(من النظر والاستدلال): بيان "ما" في: "عما يحتاجون فيه"، والحاصل أن إيراد المتشابه في التنزيل باعث على تعلم علم الاستدلال؛ لأن معرفة المتشابه متوقفة على معرفة علم الاستدلال، فتكون حاملة على تعلمه، فتتوجه إليه الرغبات ويتنافس فيه المحصلون، فكان كالشيء النافق، بخلافه إذا لم يوجد فيه المتشابه فلم يحتج إليه كل الاحتياط فيتعطل ويضيع ويكون كالشيء الكاسد، ولذلك قال: لعطلوا الطريق، وحاصله أن هذه الداعية أقوى الدواعي.
قال الإمام: إن النظر بسبب المتشابه يفتقر في تعلمه إلى الاستعانة بدليل العقل، فيتخلص عن ظلمة محض التقليد.
قوله:(من الابتلاء والتمييز) أي: أن اشتماله عليه يطمع كل محق ومبطل أن يخوض فيه ليجد ما يقوي به مذهبه، فإذا بالغ المحق في ذلك وصارت المحكمات مفسرة للمتشابهات خلص الحق من الباطل، ومن مل يبالغ فيه يبقى في باطله. روينا عن الإمام أحمد بن حنبل وابن ماجة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم قوماً يتدارؤون القرآن فقال: "إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما نزل الكتاب يصدق بعضه بعضاً، فلا تكذبوا بعضه بعضاً، فما علمتم منه فقولوا، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه".
قال السجاوندي: العقل مبتلى باعتقاد حقية المتشابه كابتلاء البدن بأداء العبادات، فالحكيم إذا صنف كتاباً ربما أجمل فيه إجمالاً ليكون موضع جثو المتعلم لأستاذه، والملوك تكثر في أمثلتهم علامات لا تدركها العقول، وقيل: لو لم يبتل العقل الذي هو أشرف