(وَلا تَتَمَنَّوْا): نهوا عن التحاسد وعن تمني ما فضل اللَّه به بعض الناس على بعض من المال والجاه؛ لأن ذلك التفضيل قسمة من اللَّه صادرة عن حكمة وتدبير وعلم بأحوال العباد وبما يصلح المقسوم له من بسط في الرزق أو قبض (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ)[الشورى: ٢٧]، فعلى كل أحد أن يرضى بما قسم له
قوله:(نهوا عن التحاسد)، جعل تمني ما فضل الله حسداً لدلالة (مَا)؛ لأن تمني ما فضل الله طلب عين ذلك الشيء، ولا يصح حصوله إلا بعد الزوال منه والانتقال إليه، وذلك هو الحسد؛ لأن الحسد: هو أن يرى لأخيه نعمة فيتمنى أن تزول عنه وتكون له دونه، وأما الغبطة: فهو أن يمنى أن يكون له مثله، ولا يتمنى زواله.
فإن قلت: يحتمل أن يكون المنهي تمني ما لأخيه ومثله على تقدير المضاف، وتمني المثل من غير زوال ما لأخيه غير مذموم؟ قلت: اللفظ يحتملهما، لكن النهي عنه والأمر بقوله:(وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ) فيه إعلام أن الأول مذموم والثاني محمود، وغليه الإشارة بقوله:"ولا تتمنوا أنصباء غيركم من الفضل، ولكن سلوا الله من خزائنه التي لا تنفد"، وغنما قال في جانب الغبطة:(وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ) دون: تمنوا من فضله ليريك أن التمني مذموم، والغبطة بلفظ التمني ملحق بالحسد، وأيضاً كما أن الحاسد في طلبه ذلك يروم ما لا يمكن حصوله، كقولهم: ليت الشباب يعود، كذلك المستمنح لفضل الله غير خائب البتة؛ لأن سائل الكريم لا يخيب. عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا دعا أحدكم فلا يقل: اللهم اغفر لي إن شئت، ولكن ليعزم المسألة، وليعظم الرغبة في الإجابة"، رواه مسلم. قال القاضي: تمني ما لم يقدر له معارضة لحكمة القدر، وتمني ما قدر له يكسب بطالة وتضييع حظ، وتمني ما قدر له بغير كسب ضياع ومحال.