حيث أرادوا براءة ساحتهم مما نعى عليهم في قوله تعالى:{فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} إلى قوله: {عَذَاباً أَلِيماً}، وقوله تعالى:{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} الآية [الأنعام: ١٢٦]، فإنهم جحدوا ما نطق به القرآن من تحريم الطيبات عليهم ببغيهم وظُلمهم، وقالوا: لسنا بأول من حرمت عليه، وما هو إلا تحريم قديم، فحرمت علينا كما حرمت على من قبلنا، وغرضهم تكذيب شهادة الله عليهم بالبغي واللم، فأراد أن يحاجهم على هذا، قال:{قُلْ فَاتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا}[آل عمران: ٩٣]، قال:"أراد أن يحاجهم بكتابهم من أن تحريم ما حرم عليهم حادثٌ بسبب ظلمهم وبغيهم لا تحريم قديم". وقوله تعالى حكاية عن عيسى عليه الصلاة والسلام:{وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}[آل عمران: ٥٠]، قال المصنف:"وما حرم الله عليهم في شريعة موسى من الشحوم والثروب ولحوم الإبل والسمك وكل ذي ظفر، فأحل لهم عيسى بعض ذلك"، وإذا تقدر ذلك؛ فالوجه أن يكون متعلق {فَبِمَا نَقْضِهِمْ}"فعلنا بهم ما فعلنا" لتتخلص من هذه الورطة، وكذلك متعلق {وَبِصَدِّهِمْ}، ويكون قوله:{وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} عطفاً على ذلك المقدر لاقتضائه معطوفاً عليه، وأقيم {لِلْكَافِرِينَ} مقام المضمر للإشعار بالعلية، والمقدر من نحو اللعنة وضرب الذلة والمسنة واستحقاق غضب الله وما أشبه ذلك ليجمع لهم نكال الدارين، وإنما ذكر معلول الوُسطى، وهو {حَرَّمْنَا}؛ لونه أخف من الآخرين، وأما الفاء في {فَبِظُلْمٍ} فغير الفاء في "فبنقضهم"؛ لأنها فصيحة، أي: وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً، فما لبثوا إلا ريثما نقضوا عهد الله؛ فبنقضهم وكذا وكذا فعلنا بهم ما فعلنا، وهذا متجه لأنه لما أتم قصة عيسى عليه الصلاة والسلام وفُهم منها ظلمهم في حقه قال:{فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا} أي: لا غرو في ذلك من هؤلاء؛ لأن ديدن من هو متسم بقوله:{الَّذِينَ هَادُوا} وسمتهم: اللم، ألا ترى كيف حرم عليهم نبيهم