"أوحينا" لا يجوز أن يعمل في "رُسُلاً"؛ لأنه تعدى بـ "إلى"، ويُمكن أن يقال: بالحذف والاتصال؛ لأن الكلام في الإيحاء لا في الإرسال، فعلى هذا {قَصَصْنَاهُمْ}، و {لَمْ نَقْصُصْهُمْ}: صفتان لـ {رُسُلاً}، وعلى أن يكون {قَصَصْنَاهُمْ} مفسراً للعامل يبقى {رُسُلاً} مطلقاً، وهو الوجه، مثله في قوله تعالى:{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ}[فاطر: ٤]، قال صاحب "المفتاح": رُسُلٌ وأي رسل؟ ! ذوو عددٍ كثير، وأولو آيات ونُذرٍ، وأهل أعمار طوال، وأصحاب صبرٍ وعزمٍ، وما أشبه ذلك.
ومقام التسلية والنظم المعجز يقتضيان ذلك، وبيانه: أن قوله تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنْ السَّمَاءِ} مؤذنٌ بأن طلبهم هذا مما اغتم به حبيب الله صلوات الله وسلامه عليه؛ ولذلك أوقع قوله:{فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ} جواباً لشرط محذوف يدل عليه سياق الكلام، قال: وهو من أحاسن الحُذوفن ونحوه قول الشاعر:
قالوا: خُراسان أقصى ما يُراد بنا … ثم القفول، فقد جئنا خراسانا
أي: إن صح ما قلتم: إن خراسان المقصد فقد جئناه وأين لنا الخلاص؟ ومن ثم قدر:"إن استكبرت ما سألوه فقد سألوا موسى أكبر من ذلك"، ثم عد قبائحهم، ونعى عليهم غيهم وعنادهم، ولما فرغ من ذلك أتى بنوع آخر من التسلية متضمناً للاحتجاج، مخاطباً به حبيبه صلوات الله عليه وسلامه، وآثر صيغة التعظيم تعظيماً للوحي والمُوحى إليه قائلاً:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} أي: لك أسوةٌ بالأنبياء السالفة فتأس بهم، {وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ}[هود: ١٢٠]؛ لأن شأن وحيك كشأن وحيهم، فبدأ بذكر نوح عليه الصلاة والسلام؛ لأنه أول نبيٍّ قاسى الشدائد من الأمة، وعطف عليه النبيين من بعده وخص منهم إبراهيم إلى داود عليه السلام تشريفاً لهم وتعظيماً لشانهم، وترك ذكر موسى عليه الصلاة والسلام ليُبرزه مع ذكرهم بقوله تعالى:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} على نمط أعم من الأول؛ لأن قوله: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْك