ثم إني، بعد استخراج هذه المعاني، وقفت على كلام إمام الحرمين في كتاب "الإرشاد"، قال:"إنهم إنما استوجبوا التوبيخ، لأنهم كانوا يهزؤون بالدين، ويبغون رد دعوة الأنبياء، وكان قد قرع مسامعهم من شرائع الرسل تفويض الأمور إلى الله تعالى، فلما طولبوا بالإسلام، والتزام الأحكام، تعللوا بما احتجوا به على النبيين، وقالوا:(لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا)، ولم يكن غرضهم ذكر ما ينطوي عليه عقدهم، والدليل عليه قوله:(قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إن تَتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ وإنْ أَنتُمْ إلاَّ تَخْرُصُونَ)، فكيف لا يكون الأمر كذلك، والإيمان بصفات الله تعالى فرع الإيمان بالله تعالى والمقرعون بالآية كفرة؟ ! ".
قوله: (وقرئ: "كذلك كذب الذين من قبلهم" بالتخفيف). هذه القراءة شاذة، بل كادت أن تكون موضوعة، وابن جني ما ذكرها في "المحتسب"، وردها الإمام أبلغ رد. والقراءة بالتشديد هي المتفق عليها، والاستدلال بها لا بهذه. ولو أريد التفصي منها يقال: إن قوله: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا) دفع لداعيهم إلى الإيمان. المعنى: إن الله تعالى لم يشأ منا الإيمان على زعمكم، فامضوا من حيث جئتم منه، واتركونا، فإذا قالوه أجب عنه، وقل: هل عندكم من علم أن الله تعالى أراد منكم الكفر، ولم يرد الإيمان؟ بل هذا الذي تقولونه كذب بحت، لأن مشيئة الله مخفية عن الخلق، ولا يعلم أحد ما قضي له من الكفر والإيمان، ومن ادعى أنه يعلم ما قدره الله تعالى عليه، يكون جاهلاً خارصاً.