والرسل أخبروا بذلك. فمن علق وجود القبائح من الكفر والمعاصي بمشيئة الله وإرادته فقد كذب التكذيب كله، وهو تكذيب الله وكتبه ورسله، ونبذ أدلة العقل والسمع وراء ظهره، (حَتَّى ذاقُوا بَاسَنا): حتى أنزلنا عليهم العذاب بتكذيبهم، (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ): من أمرٍ معلوم يصح الاحتجاج به فيما قلتم (فَتُخْرِجُوهُ لَنا)، وهذا من التهكم، والشهادة بأن مثل قولهم محال أن يكون له حجة.
شيئاً. ثم سمعته وهو منصرف يضرب فخذه، ويقول:" (وكَانَ الإنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً)[الكهف: ٥٤] ".
والحاصل: أن هذه كلمة حق، يريد بها هذا القائل في هذا المقام باطلاً. ويعضد ما ذكرناه، قوله:(هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا)، يعني: هذا الذي قلتموه جهل محض، لأنه لازم عليكم، فإن كان لكم حجة أخرى مما يصح الاحتجاج به، فأخرجوها. وقوله:(قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ)، يعني: أن المحق الصادق الدعوى، كأهل السنة، إذا تمسكوا بهذا الكلام ابتداءً على إظهار الحق، فلله ولهم الحجة البالغة، لعلمهم بذلك، ومن تمسك به لمجرد المماراة والجدال وإبطال الحق، يكون حجةً عليهم، ودليلاً على إفحامهم وعجزهم.
ونحوه ما ذكره المصنف في أول "البقرة"، عند قوله تعالى:(وَادْعُوا شُهَداءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ)[البقرة: ٢٣]: "يعني: لا تستشهدوا بالله، ولا تقولوا: الله يشهد أن ما ندعيه حق، كما يقوله العاجز عن إقامة الحجة"، وقال:"هذا بيان لتعجيزهم وانقطاعهم".
فإذاً، التكذيب واقع في واقعة معينةٍ وحالة مخصوصة، فكيف يقال:"جاؤوا بالتكذيب المطلق"، "وقد كذب التكذيب كله"؟ ! ومراده بالتكذيب المطلق: قولهم: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا)، لأنه يهدم جميع قاعدة التكليف.