وكان أبو حنيفة رضي الله عنه ممن لا يستثني فيه، وحكي عنه أنه قال لقتادة: لم تستثني في إيمانك؟ قال: إتباعاَ لإبراهيم عليه السلام في قوله: (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي)[الشعراء: ٨٢] فقال له: هلا اقتديت به في قوله: (أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى)[البقرة: ٢٦٠].
بأنه من أهل الثواب، فمن قال: إني مؤمن حقاً لابد له من القول بأن له درجات عند ربه قطعاً، وألا فقد آمن ببعض دون البعض، لكنه لا يجوز القطع بالثاني، فلا يجوز القطع بالأول، فله أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، لا: أنا مؤمن حقاً، وإليه الإشارة بقوله:"وهذا إلزام منه".
قال الإمام: مذهب عبد الله بن مسعود جواز الاستثناء، وأن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وتبعه جمع عظيم من الصحابة والتابعين، وهو قول الشافعي، رضي الله عنهم. وأنكره أبو حنيفة رضي الله عنه؛ ذهاباً إلى أن الاستثناء شك، فلا يجتمع مع الإيمان الذي هو اليقين. والشافعي يحمل الاستثناء إما على التبرك، كقوله تعالى:(لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ)[الفتح: ٢٧]، وإما على الإيمان المنتفع به عند الموت، فإذن لا خلاف في أصل المعنى.
قوله:(هلا اقتديت به في قوله: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى)[البقرة: ٢٦٠]): يعني: لِمَ لم تقتد به في هذا الجواب حيث جزم به وقطعه ولم يتردد فيه، ولم يقل: بلى إن شاء الله؟
ويمكن أن يجاب: بأن الإيمان بأن الله تعالى قادر على إحياء الموتى مما الشك فيه موجب للكفر، وليس أيضاً من مقام التبرك، بخلافه في قوله عليه السلام:(وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)[الشعراء: ٨٢]، فإنه عليه السلام في مقام هضم النفس وتحري الوسيلة إلى إنجاح المطلوب. وإليه ينظر قول الحسن:"الإيمان إيمانان".