في الآية أمرٌ، فكيف قال: حتى يأمرهم؟ قلت: قوله: (ذَرْهُمْ يَاكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا) كلمة موادعة ومُتاركة، ولا يُذهب إليه إلا بعد الإياس التام والإقناط الكلي، كأنه قيل:"كلوا وتمتعوا" كما في قوله تعالى: (قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ)[إبراهيم: ٣٠]، وقوله تعالى:(كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ)[المرسلات: ٤٦].
وموقع قوله:(رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) إلى قوله: (وَمَا يَسْتَاخِرُونَ) موقع الاعتراض بين قوله: (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) وبين قوله: (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) كقوله تعالى: (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرْ النَّاسَ)[يونس: ١ - ٢]، فإنه تعالى لما بالغ في وصف الكتاب على ما سبق حتى بلغ القضيا في كماله، وبالغوا في التكذيب حتى قابلوه بقوله:(يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) سُلي صلوات الله عليه بقوله: (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) أي: هون على نفسك فإنك بالغت في الإرشاد والإنذار، وهم أيضاً أفرطوا في التكذيب، فهم قوم جهلة قليلو الدراية، لو كانوا يودون الإسلام مرة فبالحري أن يُسارعوا إليه، فكيف وهم يودونه كل ساعة؟ وإذا كان كذلك فاقطع طمعك في ارعوائهمن ودعهم عن النهي عما هم عليهن والصد عنه بالتذكرة، بل مرهم بالأكل الأنعام والتمتع فيها أياماً قلائل، فسوف يعلمون سوء صنيعهم. والله أعلم.
قوله:(وفيه إلزام) أي: في قوله: (ذَرْهُمْ)، وقلت: في الأمر بالتمتع والاشتغال بالتلذذ: إدماج لهذا المعنى، لأن هذا القول لا يصدر عن الرسول إلا بعد الإنذار البالغ حده، واليأس من الإيمان، أي: أبلغت في الإنذار وألزمت الحجة عليهم، فلله الحجة البالغة.
قوله:(وإعذار فيه)، الجوهري: أعذر، أي: بالغ في الإنذار، وقيل: يجوز أن تكون الهمزة للسلب.