التي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين، من غير فظاظة ولا تعنيف (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ) بهم، فمن كان فيه خير كفاه الوعظ القليل والنصيحة اليسيرة، ومن لا خير فيه عجزت عنه الحيل، وكأنك تضرب منه في حديد بارد.
قوله:((إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ)، إلى آخره، وضع المُضمر موضع قوله:(مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)، ثم فصله بفحوى القرينتين، ليؤذن بان المدعو في قوله:(إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ) عام، وكذلك المجادل في قوله:(وَجَادِلْهُمْ)، كأنه تعالى يسليه صلوات الله عليه وسلامه على إذهاب نفسه حسراتٍ على إيمان القوم، أي: ما عليك إلا الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة على طريق اللين. وأما الهداية والإيمان فلا عليك. وأشار إلى التسلية بالإياس في قوله:"وكأنك تضربُ منه في حديد بارد"، وإنما قدم في التنزيل ذكر الضالين؛ لأن الكلام فيهم، وبه تقع التسلية، وأخره المصنف بناء على قضية النظم ظاهراً، ثُم إنه صلوات الله عليه لما جد في الإبلاغ، وبالغ فيه وفي مجادلتهم حرصاً منه على إيمانهم، وظناً منه أنه المسيطر على الكل، والقادر على إيجاد الهداية فيهم، أُمر بالدعوة إلى الله بالحكمة والمجادلة باللين والرفق، وعلل الأمرين بقوله:(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ)، وكرر العلم، أي: ما عليك إلا البلاغ بالحكمة والمجادلة باللين، فمن علم الله فيه خيراً كفاه ذلك البلاغُ، ومن عَلِمَ أنه لا خير فيه، لا تُجديه تلك المبالغة.
قوله:(كأنك تضرب منه في حديد بارد)، قال الميداني: هذا مثل يُضربُ لمن طمع في غير مطمع. قال الشاعر:
فإذا تساعدت النفوس على الهوى … فالخلقُ يضرب في حديد بارد
(مِن) فيقوله: "مِنهُ": تجريدية؛ لأنه جرد منه مثل الديد البارد، و"في حديد" كـ"في" في قوله تعالى: (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي)[الأحقاف: ١٥].