قوله:(على الطَّرد والعَكْس) وهو كلُّ كلامَين يُقَرِّرَ الأوَّلُ بمنطوقِه مفهوم الثّاني وبالعكس. قال ابن هانئ:
فما جازَهُ جودٌ ولا حلَّ دونَه … ولكن يَصيرُ الجودُ حيثُ يصيرُ
قال المالكيُّ في ((المصباح)): متى انتَفى كونُ الجُود يتقدَّم شخصًا ويتأخَّر عنه، فقد ثَبَت كونُه معه وبالعكس.
وأما تنزيلُ الآيةِ عليه على ما قرَّره المصنِّفُ، فإنَّه تعالى قال أولاً:{وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ}، ثم علَّله بقوله:{لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ}، وكان من حقِّ الظاهر:(لِيَجْزِيَهم) فوُضع المُظهَرُ موضِعَ المضمَرِ إشعارًا بالعِلِّيةِ، وأنَّ الإيمانَ والعملَ آذنا بأنَّ الله وليُّ صاحبِهما حيثُ يَجزيه من فَضْله، فيكون مفهومُ {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ} الموافقُ أنَّه يُحب المؤمن الصالح، مفهومُه المخالفُ أنَّه لا يحبُّ الكافرَ، فقولُه:{إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} بمَنطُوقه مقرِّرٌ لمفهوم السّابِق وبالعكس.
وفي بعض الحواشي المغربية: أنَّ كُلَّ مؤمنٍ صالحٍ مفلحٌ عندَه وعَكسُه في ضِمنه، وهو مَن ليس بمؤمنٍ صالحٍ لا يُفلح عندَه، وكذلك قوله:{إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} طَرْدُه كلُّ كافرٍ غير محبوبٍ عندَه وعكسه في ضِمنه، وهو مَن ليس بكافر محبوبٌ عندَه؛ لأنه مؤمنٌ، والعكس ملزومُ الطَّردِ؛ لأنَّ العكسَ يحتاج إلى الطَّردِ قطعًا، بخلاف الطَّردِ فإنه لا يحتاج للعكس.
قال الإمام: وفي الآية لطيفةٌ، وهي أنَّ الله تعالى عندما أسندَ الكُفر والإيمانَ إلى العبدِ قدَّم الكافرَ، وعندما أسنَدَ الجزاءَ إلى نفسه قدَّم المؤمنَ؛ لأنَّ قولَه:{مَن كَفَرَ} وعيدٌ للمكلَّف ليمتنعَ عمّا يَضرُّه فيُنقذه من الشرِّ. وقولُه:{وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا} تحريضٌ له وتَرغيبٌ في الخير ليُوصِلَه إلى الثَّواب، والإيعادُ مُقدَّم، وأمّا عند الجزاء ابتدأَ بالإحسان إظهارًا للكَرم والرَّحمة.