هذا التكلُّفُ إنّما لزِمَه لأنه فسّرَ الإنسانَ بالكافر، وجعَل التعليلَ للحَمْلِ بدليلِ قوله:((ليُعذِّب الله حاملَ الأمانة، ويتوبَ على غيرِه مِمّن لم يحمِلها)) حيثُ أوقعَ حاملَ الأمانةِ موقعَ ((على المؤمنين))، ولو حُمِلَ التعليلُ على عَرْضِ الأمانة- كما روى مُحيي السنَّةِ عن ابنِ قُتيبة: عرَضْنا الأمانةَ ليَظْهرَ نِفاقُ المُنافقِ وشِرْكُ المُشْرك فيُعذِّبَهم الله، ويظهَرَ إيمانُ المؤمنِ فيتوبَ الله عليه، أي: يعودُ عليه بالرحمةِ والمغفرةِ إنْ حصلَ منهم تقصيرٌ في بعضِ الطاعات -وحِمُلَ الإنسانُ على الجِنْس كما نَقْلنا عن الزجاج: أنّ الله ائتمنَ آدمَ وأولادَه على ما افترضَه عليهم من طاعتِه إلى آخره، كانَ له مَنْدوحةٌ عن ذلك، وجَرتْ الكلماتُ الأربعُ أعني: اللامَ والحَمْلَ والإنسانَ والتوبةَ على ظواهِرِها. ولعلّه احترزَ أن يُعلِّلَ بإرادةِ العذاب.
أو نقولُ -وبالله التوفيق-: إنّ الله تعالى خلَقَ الخلْقَ ليكونَ مَظاهِرَ أسمائِه الحُسْنى وصفاتهِ العُليا؛ فحاملُ معنى الكبرياءِ والعَظَمةِ: السماواتُ والأرضُ والجبالُ من حيثُ كوْنُها عاجزةً عن حَمْلِ سائرِ الأماناتِ لعدمِ استعدادِها وقَبولِها، ولذلك أبَيْنَ أن يحمِلْنَها وأشفَقْنَ مِنها ولعظَمِها عن أقدارِها، وحملَها الإنسانُ لقُوَّةِ استعداده واقتدارِه لكونِه ظلومًا جَهولاً، فاختُصَّ لذلك من بينِ سائرِ المخلوقاتِ بقَبولِ تَجلِّي القهّارية والتّوابيةِ والمغفرة، وشاركَها بقَبولِ تَجلِّي الرحمة، وله النصيبُ الأوفرُ منها لقوةِ استعدادِه واقتداره.
قال السجاوَنْدي: إن الله في الأنبياءِ والأصفياءِ ترائكَ وبدائعَ من خصائصِ الإنسانيةِ تحصُل بالسَّهْو وتذهبُ بالعِبَر. ذكَره في ((سورة الرعد)). وينصُره ما رَويْنا في ((مسندِ الإمامِ أحمدَ بنِ حنبل)) عن أبي هريرة: قُلنا: يا رسولَ الله، إنا إذا رأيْناكَ قلوبُنا وكنّا من أهلِ الآخرة، وإذا فارقْناك أعجَبَتْنا الدنيا وشَمِمْنا النساءَ والأولادَ قال: ((لو أنّكم تكونونَ على حالٍ على الحالِ التي أنتم عليها عندي لصافحتكُم الملائكةُ بأكفِّهم ولزارتكم في بيوتِكم،