فإن قُلتَ: كيفَ خَصَّ أحدَ التفسيرَيْن بقوله: ((عِلمًا لا يُزادُ عليه في الإيقانِ))، والآخَر بقوله:((فيزدادوا حَسرْة وغمًّا))؟
قلتُ: لأنّ المرادَ بـ ((يرى)) ومفعولَيْه: حصولُ العلمِ بعد عَدَمِه، فإذا أًريدَ بأولي العِلمِ الأحبارُ الذين لم يُؤمنوا؛ كان المعنى: ويعلمُ الأحبارُ أنّ المُنزَّلَ حقٌّ حينَ لا ينفَعُهم سوى الحَسْرةِ والندامةِ، كقولِه تعالى:{يَوْمَ يَاتِي تَاوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ}[الأعراف: ٥٣] أي: يأتي تأويلُ الكتابِ وعاقبةُ أمرِه مِن تَبَيُّنِ صِدْقِه وظهورِ ما نَطقَ به من الوعدِ والوعيد، فإذا فَسَّرَ أُولي العلمِ بالمُؤمنين، يَنبغي أن يُقالَ: انقلبَ عِلْمُ اليقينِ إلى حَقِّ اليقين لحصُلَ فائدةُ مزيدِ العلم كما قال: ((عِلمًا لا يُزادُ عليه في الإيقان)).
فإن قُلتَ: هل لاختصاصِ تفسيرِ أُولي العلمِ بالأحبارِ الذين لم يُؤمنوا على وجهِ إرادةِ النصبِ دونَ الرفعِ مِن فائدة؟
قلتُ: نعم، لأنّ هذا العطْفَ من قَبيلِ قولِه تعالى:{تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ}[الفتح: ١٦] في الاشتراكِ أو الابتداءِ، فإذا انتصبَ ((يَرى)) دخلَ في حَيِّزِ التعليلِ، وإذا ارتفعَ كانَت جُملةً مُستقلةً معطوفةً على جملةِ قولِه {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَاتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى} إلى آخرِ الآياتِ الثلاث، وحصولُ العِلْمِ حينئذٍ في الدنيا في الآخرةِ كما في وَجْهِ النَّصْب، فلا يحسُنُ التقابلُ بينَ المعطوفَيْن إلاّ على إرادةِ المؤمنينَ من أولي العلم، كأنه قيل: وقال الجَهَلةُ من الذين كفروا بآياتِ الله: لا تأتينا الساعةُ: وعَلِمَ الذين أوتوا العِلْمَ أنّ المُنزَّلَ حَقٌّ وما نطَقَ به من الوعدِ والوعيدِ صِدْقٌ، وإليه يَنْظُر قولُه {وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}.
ومما يعضُدُ هذا التأويلَ عَطْفُ قولِه:{وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} الآية على قولِه: