ومن الإظهار على الجبابرة والأكاسرة، وتغليب قليلهم على كثيرهم، وتسليط ضعافهم على أقويائهم، وإجرائه على أيديهم أمورًا خارجة من المعهود خارقة للعادات، ونشر دعوة الإسلام في أقطار المعمورة، وبسط دولته في أقاصيها، والاستقراء يطلعك في التواريخ والكتب المدوّنة في مشاهد أهله وأيامهم على عجائب لا ترى وقعة من وقائعهم إلا علمًا من أعلام الله وآية من آياته، يقوى معها اليقين، ويزداد بها الإيمان، ويتبين أن دين الإسلام هو دين الحق الذي لا يحيد عنه إلا مكابر حسه، مغالط نفسه، وما الثبات والاستقامة إلا صفة الحق والصدق، كما أن الاضطراب والتزلزل صفة الفرية والزور، وأن للباطل ريحًا تخفق ثم تسكن، ودولة تظهر ثم تضمحل. {بِرَبِّكَ} في موضع الرفع على أنه فاعل كفى. و {أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} بدل منه، تقديره: أو لم يكفهم أن ربك على كل شيء شهيد؟
قوله:(تقديره: أو لم يكفهم أن ربك على كل شيء شهيد؟ ) إلى آخره، فإن قلت: من أين دل هذا اللفظ الموجز على هذه المعاني المبسوطة؟ قلت: من مقتضى المقام والعدول من الظاهر، فإن أصل المعنى سنريهم هذه الآيات إظهارًا للحق، وكفى دليلًا على ذلك، والواو في {أَوَ لَمْ يَكْفِ} للحال، وإنما أدخل همزة التقرير على الجملة الحالية لمزيد تقرير حصول الموعود، وأن هذه الآيات كافية في المطلوب لا مزيد عليها، ووضع المظهر وقوله:{بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} موضع ضمير الآيات في قولنا: وكفى بها دليلًا؛ للإشعار بالعلية، وأن هذه الآيات إنما صلحت للدليل على حقية المطلوب؛ لأن منشئها من هو على كل شيء مهيمن مطلع، وإليه الإشارة بقوله:"فيتبينون عند ذلك أن القرآن تنزيل عالم الغيب" وأبدل {أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} من {بِرَبِّكَ} بيانًا وتفسيرًا وإيذانًا بأن هذا الوصف متعين له وشاهد بأن الرب هو الذي يكون على كل شيء شهيدًا، وإليه الإشارة بقوله:"مطكلع مهيمن يستوي عنده غيبه وشهادته"، وأما اختصاص الضمير في أنه الحق بالقرآن، فمن حيث المقام؛ لما سبق أن هذه السورة الكريمة نازلة في بيان عظمة القرآن المجيد والرد على منكريه ومعانديه، فكل ما جعل ذكره مشروعًا لمعنى أتى بما يناسبه من المعاني، فكان قوله:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} كلامًا على سبيل إرخاء العنان كالخاتمة