وعبدوه، ونحن أشف منهم قولًا وفعلًا، فإنا نسبنا إليه الملائكة، وهم نسبوا إليه الأناسي، فقيل لهم: مذهب النصارى شرك بالله، ومذهبكم شرك مثله، وما تنصلكم مما أنتم عليه بما أوردتموه إلا قياس باطل بباطل، وما عيسى {إِلَّا عَبْدٌ} كسائر العبيد، {أَنْعَمْنا عَلَيْهِ} حيث جعلناه آية؛ بأن خلقناه من غير سبب، كما خلقنا آدم، وشرفناه بالنبوّة، وصيرناه عبرة عجيبة كالمثل السائر لبني إسرائيل.
قلت: وجهه وجه قوله تعالى في تلك السورة: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}[الأنبياء: ١٠١]، وإليه أشار المصنف بقوله:"فإن كان هؤلاء في النار، فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم، ففرحوا وضحكوا، فأنزل الله:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ}، ونزلت هذه الآية".
وتقريره: أن جدلكم هذا باطل، لأنه عليه السلام ما دخل في هذا النص الصريح، لأن الكلام معكم أيها المشركون، وأنتم المخاطبون به، وإنما المراد بـ "ما تعبدون": الأصنام التي تنحتونها بأيديكم، وأما عيسى ما هو إلا عبد مكرم منعم عليه بالنبوة مرفوع المنزلة والذكر، مشهور في بني إسرائيل كالمثل السائر، فمن أين يدخل في قولنا:{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}؟ ثم لا اعتراض علينا أن نجعل قومًا أهلًا للنار، وآخرين أهلًا للجنة، إذ لو نشاء لجعلنا منكم ومن أنفسكم- أيها الكفرة- ملائكة، أي: عبيد مكرمون مهتدون إلى الجنة صابرون كقوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ}[السجدة: ١٣]، وكما لوح في تلك الآية:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}[الأنبياء: ١٠١]، والله أعلم.
قوله:(أشف منهم قولًا): الجوهري: "الشف- بالكسر-: الفضل والربح، تقول منه: شف يشف شفًا".
قوله:(وما تنصلكم): و "التنصل": الخروج من الذنب بالاعتذار.