بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [التكوير: ٢٠ - ٢٧] فقوله: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ ومَا غَوَى} جواب القسم، وقد تقرر أن الجملة القسمية يتلقى بها المنكر المصر، أي: ما ضل صاحبكم وما مسه الجن، ولا استهواه، وما غوى، وليس بينه وبين الغواية تعلق، أي: ليس بشاعر والشعراء يتبعهم الغاوون، وما ينطق عن الهوى كالكاهن، فقوله:{إنْ هُوَ إلاَّ وحْيٌ يُوحَى} كالتكملة للبيان، فكأنه قيل: ما هذا القرآن إلا وحي، ليس بقول مجنون، ولا بقول شاعر، ولا بقول كاهن، كقوله تعالى:{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الحاقة: ٤١] فقال أولًا: ما ضل وما غوى ماضيين، ثم قفاه بقوله:{ومَا يَنطِقُ} مستقبله، إيذانًا بأنه صلوات الله عليه في صغره حين اعتزلكم وما تعبدون، ما ضل قط، وما غوى في كبيرة، حين اختلى بغار حراء، فكيف ينطق بالهوى الآن وهو رسول من عند الله أمين على خلقه رحمة للعالمين، بشيرًا ونذيرًا.
وإلى هذا المعنى ينظر ما رويناه عن البخاري ومسلم عن ابن عباس عن أبي سفيان حين سأله هرقل وقال: سألتكم هل كنتم تتهمونه بالكذب، قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت أن: لا، فعرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله.
وقال جعفر بن محمد: كيف ينطق عن الهوى من هو ناطق بإظهار التوحيد، وإتمام الشريعة، وإيجاب الأمر والنهي، بل ما نطق إلا بأمر، ولا سكت إلا بأمر.
فإذا تقرر أن الآية ساكنة عن حديث الاجتهاد، فلنبين ثبوته بالنصوص الواردة فيه: منها ما روينا عن الترمذي وأبي داود عن المقدام بن معدي كرب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته، يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حرام فحرموه".