وأما اقتضاء النظم فإن مجرى الكلام إلى قوله:{وهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى}، من أمر الوحي، وتلقيه من الملك، ودفع شبه الخصوم، ومن قوله:{ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} إلى قوله: {مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى} على أمر العروج إلى الجناب الأقدس، والضمير في:{أَوْحَى} لله تعالى، و {عَبْدِهِ} من إقامة المظهر موضع المضمر، لتصحيح نسبة القرب، وتحقيق معنى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا}[الإسراء: ١]. ولا يخفى على كل ذي لب إباء مقام {مَا أَوْحَى} الحمل على أن جبريل أوحى إلى عبد الله ما أوحى، إذ لا يذوق منه أرباب القلوب إلا معنى المناغاة بين المتسارين، وما ينطوي عنده بساط الوهم، ولا يطيقه نطاق الفهم كله، وكلمة {ثُمَّ} على هذا منزلة على التراخي بين المرتبتين، والفرق بين الوحيين؛ وحي بواسطة وتعليم، وآخر بغير واسطة لجهة التكريم، فيحصل عنده الترقي من مقام {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ}[الصافات: ١٦٤] إلى مخدع {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى}.
وروى السلمي عن جعفر بن محمد: أدناه منه حتى كان منه كقاب قوسين، والدنو من الله لا حد له، والدنو من العبد بالحدود، {فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} قال: بلا واسطة فيما بينه وبينه، سرًا إلى قلبه لا يعلم به أحد سواه، بلا واسطة إلا في العقبى حتى يعطيه الشفاعة لأمته.
{فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} أي كان ما كان وجرى ما جرى.
وذكر الشيخ أبو القاسم القشيري في "مفاتيح الحجج": أخبر الله تعالى بقوله: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} أنه صلوات الله عليه بلغ من الرتبة والمنزلة القدر الأعلى مما لا يفهمه الخلق، ثم قال:{أَوْ أَدْنَى}، أي: فوق ذلك.
قال شيخنا شيخ الإسلام أبو حفص السهروردي قدس الله سره:{مَا زَاغَ البَصَرُ} إخبار عن حاله صلوات الله عليه بوصف خاص، فكان {مَا زَاغَ البَصَرُ} حاله في طرف