قلت: من حيث أنه احتجاج عليهم بالنشأة الأولى، كالاحتجاج بها عليهم في مواضع من التنزيل، وذلك قوله:(خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ) أي: من النطف، وبالقدرة على أن يهلكهم ويبدل ناسا خيراً منهم، وأنه ليس بمسبوق على ما يريد تكوينه لا يعجزه شيء، والغرض أن من قدر على ذلك لم تعجزه الإعادة.
ويجوز أن يراد: إنا خلقناهم مما يعلمون، أي: من النطفة المذرة، وهي منصبهم الذي لا منصب أوضع منه، ولذلك أبهم وأخفى، إشعاراً بأنه منصب يستحيا من ذكره، فمن أين يتشرفون ويدعون التقدم ويقولون: لندخلن الجنة قبلهم.
وقيل: معناه إنا خلقناهم من نطفة كما خلقنا بني آدم كلهم، ومن حكمنا أن لا يدخل أحد منهم الجنة إلا بالإيمان والعمل الصالح،
قوله:(وبالقدرة على أن يهلكهم)، عطف على قوله: بـ "النشأة الأولى"، فقوله "بالنشأة الأولى"، إشارة إلى أن قوله تعالى:{إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ}، وقوله:"بالقدرة" إشارة إلى قوله تعالى: {إِنَّا لَقَادِرُونَ}[المعارج: ٤٠]، وهما من قوله تعالى: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} إلى قوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ}[الواقعة: ٦١ - ٦٢].
قوله: (وقيل: معناه إنا خلقناهم من نُطفة كما خلقنا)، يعني أن المراد من قوله {مِّمَّا يَعْلَمُونَ} النظفة, وذكرها إما لإثبات القدرة على أن يقال: إنا كما قدرنا على خلقهم من ماء، نقدر على إعادتهم، أو لإثبات الإهانة والحقارة، وأنّهم لا يستحقون تلك الكرامة من حيث أنفسهم، {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ}[آل عمران: ٧٣]، أو انهم وسائر من خلق من الماء مستوون، وإنما التقديم بحسب العمل. قال القاضي: "المعنى أنكم مخلوقون من نُطفة مذرة، وهي غير مناسبة لعالم القُدُس، فمن لم يستكمل بالإيمان والطاعة، ولم يَتَخلَّق