وأما أصول الديانة ومعرفتها ومعرفة أحوال الخوارج والروافض والمعتزلة وأنواع المبتدعة فكان لا يشق فيه غباره ولا يلحق شأوه، هذا مع ما كان عليه من الكرم الذي لم أشاهد مثله قط والشجاعة المفرطة التي يضرب بها المثل والفراغ عن ملاذ النفس من اللباس الجميل والمأكل الطيب والراحة الدنيوية ولقد سارت بتصانيفه الركبان في فنون من العلم وألوان لعل تواليفه وفتاويه في الأصول والفروع والزهد واليقين والتوكل والإخلاص وغير ذلك، تبلغ ثلاث مئة مجلد لا بل أكثر وكان قوَّالًا بالحق نهَّاءً عن المنكر لا تأخذه في الله لومة لائم ذا سطوة وإقدام وعدم مداراة الأغيار، ومن خالطه وعرفه قد ينسبني إلى التقصير في وصفه، ومن نابذه وخالفه ينسبني إلى التغالي فيه، وليس الأمر كذلك.
مع أنني لا أعتقد فيه العصمة، كلا!! فإنه مع سعة عمله وفرط شجاعته وسيلان ذهنه وتعظيمه لحرمات الدين بشر من البشر تعتريه حدة في البحث وغضب وشظف للخصم يزرع له عداوة في النفوس ونفورًا عنه، وإلا والله فلو لاطف الخصوم، ورفق بهم ولزم المجاملة وحسن المكالمة، لكان كلمة إجماع؛ فإن كبارهم وأئمتهم خاضعون لعلومه وفقهه معترفون بشفوفه وذكائه مقرون بندور خطئه لست أعني بعض العلماء الذين شعارهم وهجيراهم الاستخفاف به والازدراء بفضله والمقت له حتى استجهلوه وكفروه ونالوا منه من غير أن ينظروا في تصانيفه، ولا فهموا كلامه، ولا لهم حظ تام من التوسع في المعارف والعالم منهم قد ينصفه ويرد عليه بعلم.
وطريق العقل السكوت عما شجر بين الأقران -رحم الله الجميع -، وأنا أقل من أن ينبه على قدره كلمي، أو أن يوضح نبأه قلمي، فأصحابه وأعداؤه خاضعون لعلمه مقرون بسرعة فهمه، وأنه بحر لا ساحل له، وكنز لا نظير له وأن جوده حاتمي وشجاعته خالدية، ولكن قد ينقمون عليه أخلاقًا وأفعالًا