للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يبطنون الكفر فيما ليسوا فيه منافقين في الجملة لأن القوم في المشهور كانوا يهودا وهم مخلصون في أصل الإيمان بالله واليوم الآخر على ظنهم، ومع ذلك كانوا ينافقون في كيفية الإيمان بهما ويرون المؤمنين أن إيمانهم بهما مثل إيمانهم فكيف فيما يقصدون به النفاق المحض وليسوا مؤمنين به أصلا كنبوة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم والقرآن أو أنهم قصدوا بتخصيص الإيمان بهما التعرض بعدم الإيمان بخاتم الرسل صلى الله تعالى عليه وسلم وما بلغه ففي ذلك بيان لمزيد خبثهم، وهذا لو قصد حقيقته حينئذ لم يكن إيمانا لأنه لا بد من الإقرار بما جاء به صلى الله تعالى عليه وسلم فكيف وهو مخادعة وتلبيس؟! وقيل: إنه لما كان غرضهم المبالغة في خلوص إسلامهم بأنهم تركوا عقائدهم التي كانوا عليها في المبدأ والمعاد واعترفوا أنهم كانوا في ضلال خصوا إيمانهم بذلك لأنهم كانوا قائلين بسائر الأصول، وأما النبوة فليس في الإيمان بها اعتراف بذلك، وأيضا ترك الراسخ في القلب مما عليه الأباء بترك الإيمان به صلى الله تعالى عليه وسلم من المسلمات فكأنهم لم يتعرضوا له للإشارة إلى أنه مما لا شبهة في أنهم معتقدون له بعد اعتقادهم ما هو أشد منه عليهم- وحمل بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ على القسم منهم على الإيمان- سمج بالله. وأسمج منه بمراتب حمله على القسم منه تعالى على عدم إيمانهم بتقدير ما آمنوا وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ فيجب أن يكون الباء صلة الإيمان وكررت مبالغة في الخديعة والتلبيس بإظهار أن إيمانهم تفصيلي مؤكد قوي (١) . واليوم الآخر يحتمل أن يراد به الوقت الدائم من الحشر بحيث لا يتناهى أو ما عينه الله تعالى منه إلى استقرار كل من المؤمنين والكافرين فيما أعدله، وسمي آخرا لأنه آخر الأوقات المحدودة والأشبه هو الأول سواء كان حقيقة أو مجازا ولأن الإيمان به يتضمن الإيمان بالثاني لدخوله فيه من غير عكس، نعم المناسب للفظ اليوم- لغة- هو الثاني لمحدوديته وهو على كل تقدير مغاير لما عند الناس لأن اليوم- عرفا- من طلوع الشمس إلى غروبها وشرعا على الصحيح من طلوع الفجر الصادق إلى الغروب. واصطلاحا من نصف النهار إلى نصف النهار والأمر وراء ذلك، وسيأتي لذلك تتمة، وفي قوله سبحانه: وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ حيث قدم الفاعل وأولى حرف النفي رد لدعوى أولئك المنافقين على أبلغ وجه لأن انخراطهم في سلك المؤمنين من لوازم ثبوت الإيمان الحقيقي لهم وانتفاء اللازم أعدل شاهد على انتفاء الملزوم وقد بلغ في نفي اللازم بالدلالة على دوامة المستلزم لانتفاء حدوث الملزوم مطلقا، وأكد ذلك النفي بالباء (٢) أيضا وهذا سبب العدول عن الرد بما آمنوا المطابق لصدر الكلام، وبعضهم يجري الكلام على التخصيص وأن الكفار لما رأوا أنفسهم أنهم مثل المؤمنين في الإيمان الحقيقي وادعوا موافقتهم قيل في جوابهم وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ على قصر الأفراد والذوق يبعده، وإطلاق الوصف للإشارة إلى العموم وأنهم ليسوا من الإيمان في شيء، وقد يقيد بما قيد به سابقه لأنه واقع في جوابه إلا أن نفي المطلق يستلزم نفي المقيد فهو أبلغ وأوكد.

وفي هذه الآية دلالة على أن من لم يصدق بقلبه لا يكون مؤمنا، وأما على أن من أقر بلسانه وليس في قلبه ما يوافقه أو ينافيه ليس بمؤمن فلا لوجود المنافي في المنافق هنا لأنه من المختوم على قلبه أو لأن الله تعالى كذبه وليس إلا لعدم مطابقة التصديق القلبي للساني كذا قيل، ودقق بعضهم مدعيا أن من يجعل الإيمان الإقرار اللساني سواء يشترط الخلو عن الإنكار والتكذيب أم لا يشترط أن يكون الإقرار بالشهادتين ولا يكفي عنده نحو آمنت بالله وباليوم الآخر لأن المدار على النطق بهما كما ورد في الصحيح حتى اشترط بعضهم لفظ أشهد، والاسم الخاص به تعالى واسم


(١) لأن إعادة العامل تقتضي أن متعلقه كالمعاد كما قال (س) في مررت بزيد وبعمرو فيفيد ما ذكر وهو ظاهر اهـ منه.
(٢) فيه إشارة إلى أن النفي اعتبر أولا ثم أكد فالكلام من تأكيد النفي لا نفي التأكيد اهـ منه.

<<  <  ج: ص:  >  >>