واعلم أنَّ السيرَ إذا كنتَ تخبر عنه فى هذا الباب فإنَّما تُخْبِرُ بسَيْرٍ متّصِلٍ بعض ببعضٍ فى أىَّ الأحوال كان. وأمَّا قولك: إنما أنت سيرٌ فإِنما جعلتَه خبراً لأنتَ ولم تضمِرُ فِعْلا. وسنبيَّن لك وجهَه إن شاء الله.
ومن ذلك قولك: ما أنت إلاّ شُرْبَ الإِبل، وما أنت إلاّ ضربَ الناس، وما أنت إلاّ ضرباً الناسَ. وأمّا شربَ الإِبلِ فلا ينوَّنُ لأنك لم تشبّهه بشرب الإِبل، وأنَّ الشربَ ليس بفعلٍ يَقع منك على الإِبل.
ونظيرُ ما انتَصب قولُ الله عزّ وجلّ فى كتابه:" فإما منا بعد وإما فداء "، إنّما انتصب على: فإمّا تَمنّون منًّا وإمّا تُفادون فداءً، ولكنَّهم حذفوا الفعلَ لما ذكرتُ لك.
ومثله قول " الشاعر، وهو " جرير:
أَلَمْ تَعْلَم مُسَرَّحِىَ القَوافِى ... فلا عِيًّا بهنّ ولا اجتلابا
كانّه نَفَى قولَه: فِعيًّا بهنّ واجتلابا، أى فأَنا أَعْيَا بهنّ وأَجتلِبُهن اجتلابًا، ولكنه نَفَى هذا حين قال:" فلا ".
ومثُله قولك: أَلم تَعلم يا فلانُ مَسِيرى فإِتعاباً وطَرداً. فإِنَّما ذَكَرَ مُسرَّحَه وذكر مَسيره، وهما عَمَلانِ، فجعل المسيرَ إتعابا وجعل المسرح لا عي فيه، وجعله فعلاً متَّصِلا إذا سار وإذا سَرَّحَ.
وإِنْ شئتَ رفعت هذا كلَّه فجعلتَ الآخِرَ هو الأوّلَ، فجاز على سعة الكلام. من ذلك قولُ الخنساء: