غابر الدهر، لبعد مسافتها، واختلاف مسالكها، وفخامة بنيانها، وشموا أبراجها، التي يترقى الماء فيها، ويتصوب من أعاليها.
وكان مدة العمل فيها، من يوم ابتدئت من الجبال إلى أنَّ وصلت أعني القناة إلى هذه البركة، أربعة عشر شهراً. وكان انطلاق الماء في هذه البركة الانطلاق الذي اتصل واستمر، يوم الخميس غرة جمادى الآخرة من السنة المذكورة، وكانت للناصر في هذا اليوم بقصر الناعورة دعوة حسنة، أفضل فيها على عامة أهل مملكته، ووصل المهندسين والقوام بصلات حسنة جزيلة. واستمر العمل في مدينة الزهراء من عام خمسة وعشرين وثلاث مائة إلى آخر دولة الناصر وابنه الحكم، وذلك نحو من أربعين سنة.
ولمّا فرغ من بناء مسجد الزهراء على ما ذكره آنفاً، كانت أول جماعة صليت فهذا صلاة المغرب من ليلة الجمعة لثمان بقين من شعبان، وكان الإمام لها فيه القاضي أبا عبد الله محمّد بن عبد الله لن أبي عيسى. ومن الغد صلى الناصر فيه الجمعة، وأوّل خطيب خطب به القاضي المذكور. ولمّا بنى الناصر قصر الزهراء. المنتهى في الجلالة والفخامة، وأطبق الناس على أنّه لم يبن مثله في الإسلام البتة، وما دخل إليه أحد قط من سائر البلاد النائية، والنحل المختلفة، من ملك وارد، ورسول وافد، وتاجر، وجهبذ، وفي هذه الطبقة من الناس تكون المعرفة والفطنة، إلاّ وكلهم قطع أنّه لم ير له شبيها، بل بم يسمع به، بل لم يتوهم كون مثله، حتى أنّه كان أعجب ما يؤمله القاطع إلى الأندلس في تلك العصور النظر إليه، وتحدث عنه؛ والأخبار عن هذا تتسع جدا، والأدلة عليه تكثر، ولو لم يكن فيه إلاّ السطح الممرد،