للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أنه قلما يسقط منه شيء، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه على جلالته في العلم، وتقدمه في النقد يقدمه على سائر الفحول من طبقته؛ قال ليلة لعبد الله بن العباس وهم سائرون إلى الشام: أنشدني شعر أشعر القوم، فقال: ومن ذاك؟ قال: زهير، قال: وبم استحق عندك ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: رأيته لا يعاضل بين الكلام، ولا يتبع حوشي الألفاظ، ولا يمدح الرجال إلا بما يكون للرجال، وما ذاك إلا لتنقيحه شعره، وترداد نظره في كلامه ولهذا المعنى أشار أبو تمام بقوله كامل:

خذها ابنة الفكر المهذب في الدجى ... والليل أسود رقعة الجلباب

فإنه إنما خص تهذيب الفكر بالدجى لكون الليل تهدأ فيه الأصوات، وتسكن الحركات، فيكون الفكر فيه مجتمعاً، والخاطر خالياً، ولا سميا في وسط الليل عندما تأخذ النفس حظها من الراحة، وتنال قسطها من النوم، ويخف عليها ثقل الغذاء، فحينئذ يكون الذهن صحيحاً، والصدر منشرحاً، والقلب منبسطاً، واختياره وسط الليل دون السحر مع ما فيه من رقة الهواء، وخفة الغذاء، وأخذ النفس سهمها من الراحة، لما يكون في السحر من انتباه أكثر الحيوان الناطق والبهيم، وارتفاع معظم الأصوات وجرس الحركات، وتقشع الظلماء، بطلائع الأضواء. وببعض ذلك

<<  <   >  >>